للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وذللناها لهم)]

يقول تعالى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:٧٢].

قوله: (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ): أي: سخرناها لهم، يتصرفون فيها كما شاءوا، {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:٧٢] أي: فمن هذه الأنعام ركوبهم، والركوب: المركوب.

ولم يكن من المركوب في الزمن الأول غير الإبل والخيل ونحوهما، وقد خلق الله لنا في هذا الزمن الركوب على الحديد براً وبحراً وجواً، وأشار تعالى إلى ذلك في قوله: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٨].

فيخلق ما لا يُعلم من أنواع المركوبات، فقدر جل جلاله أنه في عصر من العصور وزمن من الأزمنة -وهو الذي نعيش فيه- سيكون هناك أنواع من المركوبات من غير الدواب، وقد قال ابن عباس هذا، وكان الأمر كذلك، فنحن الآن نقول: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٨] كالخيل والبغال والحمير والسيارة والطيارة والقطار والصاروخ والبواخر، وما إلى ذلك.

ولم يخبر النبي عليه الصلاة والسلام الناس بذلك؛ لأنه كان يعلمنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم، فلو قال للناس: سيُركب الحديد وسيطار عليه في الأجواء، وسيقطع ما يقطع سنة في بضع ساعات، لقال الناس عن نبي الله: إنه مجنون، ولو أن أجدادنا الذين لم يدركوا هذا عاشوا ورأوا الحديد يطير لما صدقوا، وأما نحن فعشنا حتى رأينا ذلك وعرفنا حقيقته، فلم نعد نستغرب، وإلا فذلك يدعو إلى الغرابة، إن هذه الطائرة تحمل خلقاً وسلعاً وتخترق الآفاق في قليل من الزمن، فكيف حصل ذلك؟! لقد حصل ذلك بقدرة الله، كما أن الأرض والسماء محمولتان على غير عمد.

فالطائرة تسبح في الفضاء كما تسبح جميع النجوم الكواكب، فالله جل جلاله أعطى الإنسان من العقل ومن الوعي ومن الإدراك ما أخذ يصنع به ذلك.

وهناك رجل من الأندلس اسمه عباس بن فرناس فهو الذي اخترع الطيران، فقد اخترع شيئاً لم يصل إليه أحد قبله، حيث اخترع لنفسه جناحين، فطار بهما في الأجواء، ولكنه حال طيرانه علم أنه قلد الطائر في جميع خصائصه سوى الذيل، فأخطأ ونسي، حيث كان يظن أن ذيل الطائر لا فائدة منه، ولا علاقة له بالطيران، وليس الأمر كذلك، فبقي يطير إلى أن تعب، وإذا به يسقط بغير تدريج فيصاب في مقاتله، وذكر هذا لمن حضر موته، ولذلك نرى الطائرات اليوم لها في مؤخرتها ما يشبه الذيل يساعدها على النزول، يساعدها جناحاها على الارتفاع، فتناطح السحاب علواً.

يقول تعالى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:٧٢].

أي: منها المركوب، فالركوب: المركوب، كما تقول: شاة حلوب، أي: محلوبة، وبقرة حلوب، أي: محلوبة، فالله تعالى جعل من هذه الأنعام ما يركب، وجعل منها ما يؤكل.