للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون)

قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان:٣].

هذه الأوثان التي عبدوها، والأوثان التي جعلوها شريكة لله وأبناءً لله من ملك أو جن أو إنس أو جماد هذه الآلهة هم اتخذوها ولم يتخذها الله ولداً، وليس لها في واقع الحال وجود ولا كيان، اتخذوها هم كذباً وزوراً على الله؛ ليعيشوا عبيداً من تلقاء أنفسهم للجمادات، ولمن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، هذه الآلهة التي خلقوها في أذهانهم، وزوروها وكونوها ولا وجود لها، فهي كالخيالات التي ترى في الأفلام والتي تكتب في الرواية، وهي لم توجد يوماً، ولم تكن يوماً، وإنما الأوهام كونتها، وهي في حد ذاتها لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً.

قوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم:٨١] هذه الآلهة الزائفة الضائعة لم تخلق شيئاً في حياتها، ولم تستطع ذلك، ولا يليق بها، بل هي مخلوقة، فاتخذوا الملائكة آلهة والله هو الذي خلقها، واتخذوا الجن آلهة والله هو الذي خلقهم، واتخذوا الإنس آلهة والله هو الذي خلقهم، فهم لا يستطيعون أن يخلقوا شيئاً، وقد ضرب الله مثلاً لكل الخلق ملكاً وإنساً وجناً على أن يخلقوا ذباباً، بل على أن يستنقذوا من الذباب شيئاً، فقال الله عنهم: {لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:٧٣] أي: ضعف الملك والجن، والإنس والذبابة، ولو كان هناك شيء أقل من ذبابة لضرب الله به المثل، وهكذا كان وسيبقى وإلى الأبد، فكل ما يذكر الله لنا الآن قد قيل لمن قبلنا، وكأنه يوحى به جديداً على النبي عليه الصلاة والسلام، فبالنسبة لنا هو إيحاء جديد؛ لأننا نسمعه بعد أن خلقنا، وبعد أن أوجدنا، وبعد أن تأهلنا لذلك، ومن هنا جاء الحديث النبوي: (هو الذي لا يخلق على كثرة الرد، ولا يبلى على كثرة التلاوة) فيبقى جديداً باستمرار، فنستنبط ويستنبط العلماء منه الأحكام والآداب والرقائق، فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، هو الفصل الذي يفصل بين الحق والباطل، والفرقان كما سماه الله تعالى، ما تركه من جبار إلا قصمه الله، وما تركه من حاكم أو ملك أو طاغية إلا وقصمه الله في الدنيا قبل الآخرة {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:١٢٧].

{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان:٣] هذه الآلهة التي اتخذوها ولا وجود لها هي أعجز من أن تخلق شيئاً، بل هي مخلوقة موجودة، بل هي التي أوجدها الله عن غير رغبة منها أو إرادة، هكذا خلقت كما أن الله لم يستفتنا في ولادتنا ولا في أي عصر نكون، ولا من يكون آباؤنا، ولا من تكون أمهاتنا، فهذا عمل الله المنفرد به جل جلاله، فيخلق ما يشاء كيف شاء في الزمن الذي يشاء.

قوله: {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [الفرقان:٣] أي: هذه الآلهة فوق أنها مخلوقة ولا تخلق شيئاً ولن تستطيع: لا تملك لنفسها أن تدفع عنها الضر، أو تجلب لنفسها المنفعة، إن ضرت فهي عاجزة أن تدفع هذا الضر، وإن نفعت فهي عاجزة عن أن تأتي بالنفع لها، ولكن الله هو النافع والضار، ولكن الله هو خالق كل شيء جل جلاله وعز مقامه، أما هي في حد ذاتها فلا تملك نفسها، ولا قدرة لها على جلب منفعة أو دفع ضر كشأن العباد والخلق كلهم، وما نفعله هو بقدرة الله وإرادته، لولا أن الله خلق لنا الأيدي لما استطعنا أن نحمل، ولا أن نبطش، ولولا أن الله خلق لنا أعيناً لما استطعنا أن ننظر، ولولا أن الله خلق لنا عقولاً لما استطعنا أن نفكر، فهؤلاء الذين قالوا: الإنسان هو الله، أو هو شريك الله، ومن الذي خلق الإنسان؟ لو أن هذا الإنسان سلبه الله عقله وحواسه ماذا يستطيع أن يفعل؟ أين قدرته؟ أين استنباطه؟ أين عمله؟ ولكن الضلال والظلام إذا خيم على قلب إنسان أو عقله ضاعت معه كل الحقائق بالنسبة له.

قال تعالى: {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان:٣].

أي: لا يملكون حياة فيحيوا، أو يعطوا الحياة لأحد، ولا يملكون الموت فيميتوا أحداً، وكم حاول أناس أن يقتلوا فعجزوا، فإن مات فالله هو الذي أماته؛ لأن هذا لم يتجاوز أكثر من ضرب بالرصاص أو بالسيف، أما الروح فلا يعلم ما هي، وقد يضربه ولا يموت وكم حدث هذا! {وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان:٣] فبعد أن نموت نحيا وسننتشر في الأرض، وهذه هي الحياة الثانية، وهذا هو النشور، وهذا البعث الله وحده قادر عليه، وهذه الآلهة المزيفة المخترعة لا تملك من ذلك قليلاً ولا كثيراً، فهؤلاء على كفرهم وظلمهم وضلالهم لم يكتفوا بذلك، بل أصبحوا دعاة للكفر بكل جهل وحماقة.