للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى قوله تعالى: (فصلت آياته)]

قال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت:٣] وهذه كلمة من مبتدأ وخبر، ومعناها: أنه كامل، فهو كتاب بيّنت آياته ووضّحت، وقد تكلم هذا الكتاب بتفاصيل الحلال والحرام والعقائد والآداب، وتكلم عن الأنبياء وعن شعوبهم وعمن آمن من هذه الشعوب ومن كفر، وكيف خلق الله السماوات والأرض، وكيف خلق الملك والجن والإنس، فقد احتوى هذا الكتاب على كل شيء، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:٣٨] ففيه خبر من قبلكم ونبأ من بعدكم وما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، وما حكم به مؤمن إلا وأعزّه الله وشرّفه.

قوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت:٣] أي: فصّلت وبيّنت ووضّحت وتكلمت بتفاصيل الأحكام وما ينفع البشر في دنياهم وما ينفعهم في أخراهم وما ينفعهم فيما بينهم وبين أسرهم ومجتمعهم وحكّامهم وأعدائهم وإخوانهم.

ففيه كل ما يفيد البشر والجن، وفيه ما لو تمسكوا به لسعدوا به سعادة الدنيا والآخرة، وفيه كل شيء تقر به عين المؤمن وتذل به نفس الكافر، كما قال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:٣].

أي: ومع هذا أنزله الله تعالى قرآناً عربياً، أي: أنه نزل بلغة العرب وبقواعدهم نحواً ولغة ومعاني وبديعاً، ولذلك يُفهم القرآن كما تُفهم لغة العرب الفصحى بقواعدها من مرفوع ومنصوب ومجرور، وبقواعدها من الاستعارة والصراحة والمجاز والكلام البيّن بلا مجاز، ومن هنا فسّره علماؤنا تبعاً لتفسير الصحابة له.

والعرب كانوا يتكلمون بعربيتهم الفصحى سليقة وفطرة، ولم يكونوا يحتاجون لـ سيبويه الفارسي ولا للأصمعي ولا للكسائي؛ لأن القرآن نزل بلغتهم جملاً ومفرداً، فكانوا يفهمونه مباشرة، ولكنهم مع ذلك كانوا بشراً، وكان لكل قوم لهجتهم، ولذلك كان هناك من يفهم القرآن فهماً بيّنا واضحاً ومن يفهمه فهماً خاطئاً، ومن هنا نزل القرآن الكريم بلغة قريش، ونزل على أفضلهم أكرمهم وأنبلهم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، سيد العرب لغة وفصاحة ونسباً وحسباً، وقد كلفه الله بفهمه وشرحه وبيانه، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:٤٤].

وقد تنازع العلماء والصحابة في بيان وتفسير النبي عليه الصلاة والسلام لبعض الآيات؛ لأنه وإن نزل بلغة قريش فقد كان يكثر أن يتكلم النبي عليه الصلاة والسلام فيسأله سائل من العرب من أهل قريش: ما معنى هذه الكلمة يا رسول الله؟! كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يُكذّب الصادق ويُصدّق الكاذب، ويؤتمن الخائن ويخوّن الأمين، وينطق فيكم الرويبضة، فقال قائل: ما الرويبضة يا رسول الله؟! قال: المرء التافه يشتغل بأمر العامة).

وهذا كزعماء عصرنا ورؤساء أحزابهم ونواب برلماناتهم المتكلمين في شئون العامة من الجهلة أشباه الأميين الذين قد يعرفون اللغة الفرنسية والإنجليزية ولا يعلمون عن الشريعة وعن دين الله وعن لغة كتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم قليلاً ولا كثيراً، فهم كالأعجام في ذلك أو أكثر.