للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة]

أما حكم الصلاة على رسول الله فالله قد أخبرنا بأنه يصلي على النبي، وأن ملائكته تصلي على النبي، وأمرنا أن نصلي عليه ونسلم، وقد نقل الإجماع في وجوب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم القاضي عياض في الشفاء، وقال به الإمام الطحاوي والإمام الحليمي والإمام محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي كرم الله وجهه وعليهم السلام.

وقال الإمام الشافعي: الصلاة على رسول الله واجب في كل صلاة في التشهد الأخير، فمن لم يصل على رسول الله في الصلاة فصلاته باطلة وعليه أن يعيدها.

وما قاله الإمام الشافعي وأعلنه قولاً واحداً بلا خلاف، وهو مذهب جميع أصحابه بلا خلاف، وهو ما ذهب إليه الإمام أحمد أخيراً، وهو مذهب الإمام إسحاق بن راهويه، وهو مذهب الإمام محمد بن إبراهيم بن الموالي المالكي، وهو مذهب ابن المواز المالكي، وهو مذهب ابن العربي الأندلسي المالكي، فلم ينفرد بهذا الإمام الشافعي.

إذاً: القول بوجوب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وأن من لم يصل عليه في الصلاة في التشهد الأخير فصلاته باطلة هو مذهب جماعة من الصحابة، منهم: جابر بن عبد الله وعبد الله بن مسعود، وهو مذهب جماعة من التابعين منهم: الإمام الشعبي، ومنهم الإمام محمد الباقر، وزاد أصحاب لـ أحمد وأصحاب للشافعي: أن الصلاة على رسول الله في الصلاة في التشهد الأخير لا بد وأن تكون مع الصلاة على الآل في الصلاة الإبراهيمية، فمن لم يصل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة العامة ويصلي معه على الآل فصلاته باطلة.

وهذا هو رأي طائفة من الصحابة وطائفة من التابعين وطائفة من الأئمة المجتهدين.

والأحاديث في الصلاة على رسول الله متواترة مستفيضة عن العشرات من الصحابة، وفيهم من الخلفاء الراشدين عمر وعلي، وفيهم من آل البيت الحسن والحسين وفاطمة أمهما بنت النبي عليه وعليهم السلام.

وروي كذلك عن جماعات تجاوزت الثلاثين إلى الأربعين، ومع هذه الكثرة الكاثرة والنص على التواتر من الإمام ابن كثير وغيره فهناك من كتب في التواتر فأغفل ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأنها من المتواتر.

فمن الأحاديث هذه الصلاة الإبراهيمية، ومن ذلك: (من أراد أن يدخل الجنة معي فليصل علي).

ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي).

ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام وقد أصبح يوماً منشرح النفس ضاحك الأسارير، فسئل عن ذلك عليه الصلاة والسلام؟ فقال: (أتاني جبريل فبشرني أن من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً، وكتب له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفعه عشر درجات).

وجاء رجل للنبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله إني أصلي عليك كثيراً، أأصلي عليك ربع صلاتي؟ -أي: ربع وقتي من الدعوات- قال: إن شئت، وأن تزيد خير لك، قال: فالثلث يا رسول الله؟ قال: إن شئت، وأن تزيد خير لك، قال: فالنصف يا رسول الله؟ قال: إن شئت، وإن تزيد خير لك، قال: الثلثين؟ قال: إن شئت وأن تزيد خير لك، قال: يا رسول الله، أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذاً يكفيك الله همك في الدنيا والآخرة، ويغفر الله لك جميع ذنوبك).

من الذي يزهد في هذا الخير؟ من الذي يبتعد عن هذه الخيرات؟ من الذي يسمع هذا عمن لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم -وهو في غنية عنا بصلاة الله عليه وصلاة ملائكته عليه- ولا يصلي عليه، والله يأمرنا بذلك، ونبي الله عليه الصلاة والسلام يأمرنا بذلك ويحضنا؟ والصلاة على رسول الله لا وقت لها ولا زمن كالذكر، وهي تفرض في أوقات معلومة، إذا صلينا على الجنازة فعند التكبيرة الأولى نقرأ الفاتحة الأولى، وعند التكبيرة الثانية نقرأ الصلاة الإبراهيمية: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد إلى آخرها.

فنحن في الصلاة على الميت ووداعه الوداع الأخير نصلي على رسول الله؛ لأن هذا الميت كان فضل رسول الله عليه عظيماً، إذ هو برسول الله صار مسلماً، فنحن نيابة عنه وهو قد أفضى إلى ما قدم نصلي على رسول الله شكراً لما أكرم به هذا العبد من كونه آمن به واتبع أوامره واجتنب نواهيه.

فإن قصر فنحن ندعو له في التكبيرة الثالثة وندعو لأنفسنا، وفي التكبيرة الرابعة نقول: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده.

إذاً: فالصلاة على رسول الله مطلوبة عند بداية الخطاب وعند نهايته، وعند ابتداء الكلام وعند انتهائه، وتزداد استحباباً وتأكيداً ليلة الجمعة ويوم الجمعة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من صلى علي يوم الجمعة بلغتني صلاته، فقالوا له: كيف تصلك يا رسول الله وقد أرمت - أي: بليت وفنيت - قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، إن صلاتكم تبلغني حيث كنتم وحيث سلمتم) فصلى الله عليه وسلم.

وقال عليه الصلاة والسلام: (إن لله ملائكة سياحين يبلغونني عن أمتي صلاتها وسلامها، وإن الله كلف ملكاً أو ملكين يردان السلام على من سلم علي) صلى الله عليه وعلى آله.

ويوم الجمعة قال عنه عليه الصلاة والسلام: (هو خير أيامكم، فيه خلق آدم، وفيه يموت آدم، وفيه تكون الصعقة - أي: يوم القيامة - ومن صلى علي فيه بلغتني صلاته) فصلى الله عليه وعلى آله.

والصلاة على رسول الله يكفي في أجرها وثوابها أن المكثر في صلاته على النبي يكفى همه في الدنيا والآخرة، وتغفر ذنوبه، وتصلي عليه الملائكة، ويرفع الله له عشر درجات، ويمحو عنه عشر سيئات، ويؤتيه عشر حسنات، ومن هنا أوجب من أوجب الصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام.

(جاء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام بدويان أعرابيان فسأله أحدهم، قال: يا رسول الله! قد كثرت علي الشرائع فاختر لي، قال: إن استطعت أن يكون لسانك رطباً بذكر الله فافعل)، ثم ذكر الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.

فكانت هذه درجات ومنازل بالنسبة للمصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، وفيها من أسمى ما يتمناه المسلم ويسعى إليه العابد، ولا يزهد فيه إلا مغبون، ولا يبتعد عنه إلا مخذول، خاصة إذا ذكر عليه الصلاة والسلام.

فإذا ذكرنا اسمه لا نزال نعقب عليه بقولنا: صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإذا ذكرناه لا بد أن نصلي عليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (البخيل كل البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي) أي: البخيل كثير البخل من يسمع اسم محمد نبيه ورسوله وخاتم الأنبياء ولا يقول عنه: صلى الله عليه وعلى آله.

ولا بد أن يذكر آله مع الصلاة عليه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد).

ومن هنا فالإمام الشافعي المطلبي أوجب اجتهاداً بمثل هذه الأحاديث وأضرابها وأشكالها الصلاة على رسول الله في الصلاة، وأن من لم يصل على رسول الله في الصلاة الواجبة فصلاته باطلة، وليس هذا مذهباً خاصاً به، فهو مذهب لـ أحمد.

وقال الإمام مالك، والإمام سفيان الثوري: الصلاة على رسول الله في الصلاة في التشهد الأخير سنة مؤكدة يعاتب ويوبخ ويلام تاركها، وكأنهما أيضاً يقولان بالوجوب؛ لأن التوبيخ والتقريع والملامة لا تكون إلا على من ترك واجباً.

فقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:٥٦] لنقول امتثالاً لأمر الله وهو يأمرنا كما أمر من قبلنا: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد).

والعالمين جمع عالم، أي: عالم الإنس والجن والملك، وفي عوالم البشر عربها وعجمها، مشارقها ومغاربها، وفي العوالم المعاصرة والعوالم الآتية بعدنا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام والتي ستتوالى إلى يوم القيامة.

وقوله: (وسلموا تسليماً) مفعول مطلق أي: سلاماً دائماً مستمراً لا ينقطع.