للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ولولا كلمة سبقت من ربك)]

قال تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه:١٢٩].

وهذا من فصاحة القرآن وبلاغته، وفصاحة لغة العرب التي نزل بها القرآن، وتقدير الكلام: لولا أنه سبق في حكمه وفي إرادته أنه يرسل رسلاً مبشرين ومنذرين، وألا يعذب إلا بعد إرسال الرسالات والهداية والتعليم والتربية، للزم العذاب.

قوله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ} [طه:١٢٩].

أي: حكم وإرادة إلهية علية، فلولا حكم من الله سبق بأنه لا يعذب عباده قبل إرسال الرسل ولا يعذب عباده إلا بعد أن يمهلهم زمناً هو مدة أعمارهم وإلى يوم القيامة؛ لولا ذلك لعاقبهم الله في الدنيا قبل الآخرة، كما صنع جل جلاله مع السابقين حيث عوقبوا في الدنيا قبل الآخرة.

ولكن تكرمة لنبينا صلى الله عليه وسلم رفع المقت والغضب في الدنيا بمثل ما كان تعذب به الأمم السابقة، فلا خسف ولا مسخ ولا غرق ولا صواعق ولا زلازل تأتي على الأمة كلها كما أتى الغرق لقوم نوح ولقوم فرعون، والزلازل والصيحات لعاد وثمود، والصواعق والرجم من السماء لقوم لوط بحيث كانت الأرض ترفع ويجعل عاليها سافلها حتى تسمع أصوات الديكة إلى السموات، ثم يرمى بها إلى الأرض لفعلهم.

واليوم الناس يفعلون كل ذلك الذي أهلكت الأمم السابقة بسببه، ولكن سبق في علم الله أن هذه الأمة لا يقع عليها عذاب كالأمم السابقة.

قوله: {لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه:١٢٩].

أي: لولا الحكم ولولا الإرادة الإلهية العلية التي سبقت من الله بضربه الأجل في العذاب وبإعطاء المهلة مدة الحياة لكان العذاب لازماً، ولكان العذاب مفاجئاً، ولكان العذاب في الدنيا قبل الآخرة بمثل ما عوقبت به الأمم السابقة التي نمشي في مساكنها ونرى آثار اللعنة والهلاك والدمار والخراب عليها.

ولولا: حرف امتناع لوجود، امتنع أن يعذب الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا بمثل ما كانت تعذب به الأمم السابقة، لوجود سبق عهده وحكمته وكلمته بذلك، فامتنع عذابها إلى حلول الأجل.

ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يمهل ولا يهمل)، أي: يمهل العصاة المشركين ولكنه لا ينساهم ولا يهملهم، بل لهم أجل مفروض يوم يجمع الله الخلائق كلها فيأتون إلى الله حفاة حاسري الرءوس قلفاً، وإسرافيل ينفخ في الصور: يا أيتها العظام النخرة! يا أيتها الجلود الممزقة! يا أيتها اللحوم المبعثرة! أجيبوا داعي ربكم، فيأتون للعرض على الله وتراهم يتخافتون فلا تسمع إلا همساً.

والأجل الذي سماه الله هو يوم القيامة، فهو مسمى عند الله، لكن لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، لا تأتيكم الساعة إلا بغتة، كما سأل جبريل نبينا عليه الصلاة والسلام عنها فقال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، ولكنها مع ذلك محددة بيوم وساعة.

والله جل جلاله قد ذكر لنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أماراتها الصغرى والكبرى، وقد ذهب من الصغرى الكثير ونكاد نبتدئ في الكبرى.

وكان من العلامات الصغرى الرسالة المحمدية نفسها، قال فيها صلى الله عليه وسلم: (أرسلت والساعة كهاتين)، أي: كان قريباً من الساعة كقرب السبابة من الوسطى، ولكن كم مضى من الدنيا لنعلم كم بقي؟ لا يعلم ذلك إلا الله.

فقوله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا} [طه:١٢٩]، أي: لكان العذاب لزاماً ملازماً قائماً مهلكاً.