للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون)]

قال الله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:٨٩] وكان هذا قبل تشريع الجهاد.

هذه الآية فيها تهديد ووعيد وإنذار قاس شديد؛ لأنه جاء بعد قوله: (فاصفح عنهم) أي: فأعرض عنهم، ودعهم وسالمهم، ولا تفعل فعلهم، ولا تقل قولهم، ولا تقاربهم في سفههم، وأعرض عن الجاهلين، وانتظر فإن العاقبة لك كما كانت للأنبياء قبلك.

ولا تقابلهم لا شتماً بشتم، ولا هجواً بهجو، ولا هجوماً بهجوم، فقد كانوا يعذبون ضعاف القوم إلى حد القتل، حتى أخرجوا نبينا وأصحابه عن مكة كلها، فهاجروا إلى المدينة المنورة، وكانت يثرب، فغير الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الاسم، فطابت بطيب محمد صلى الله عليه وسلم، وتنورت بنوره، وتشرفت بمقامه فيها حياً وميتاً.

وقوله تعالى: ((فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)) أي: فقد علموا ذلك، فقد نزل قوله تعالى في الآية المدينة التي نزلت في المدينة وهي قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:٣٩ - ٤٠] أي: شردوا من وطنهم وقوتلوا لأنهم قالوا كلمة الحق، وهي: لا إله إلا الله، فشرع القتال دفاعاً عن الأوطان ورفعاً للظلم، ودفاعاً عن العقيدة، وما شرع القتال يوم شرع إلا جواباً على الظلمة والجبابرة والعتاة من المواطنين وغير المواطنين.

والعهد المكي لم يكن فيه أمر بالقتال، ولم يكن إلا الأمر بالصبر، وكان يمر عليه الصلاة والسلام على الأسرة من أصحابه نساء ورجالاً وشباباً وهم يعذبون بالنار والضرب بالحديد حتى تسال الدماء، ولا يملك لهم شيئاً إذ ذاك فيقول: (صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة)، فاستشهدت أم عمار زوجة ياسر في سبيل الله فقد ضربها أبو جهل بحربة في قلبها، وهي تعلن كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، وكان يصر عليها أن تشرك بالله وتكفر بمحمد وهي تأبى إلا عقيدة لا إله إلا الله وموالاة الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله.

فالله يأمر محمداً ألا يعاقبهم، بل يسالمهم ولا يقاربهم بالقول أو بالفعل، فإنهم سيرون عاقبة ظلمهم وشركهم، وقد كان الأمر كذلك، فما كاد يطأ بقدمه الشريفة عليه الصلاة والسلام المدينة إلا ووجد الإيمان قد سبقه إليها، وما من درب من دروبها ولا حي من أحيائها ولا سوق من أسواقها إلا وفيه رجل أو امرأة أو أسرة كاملة تقول: لا إله إلا الله، وعندما جاءها مهاجراً انتظروه اليوم بعد اليوم، حتى أقبل من بعيد، فرحبوا به مهللين، زاجلين، ناشدين الشعر وهم يقولون: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع حتى ضربت الدفوف على رأسه، فقد جاءت أمة سوداء وقالت: (يا رسول الله! لقد نذرت إن أوصلك الله إلينا سالماً أن أضرب الدف عند رأسك، قال لها: إن نذرت فافعلي وإلا فلا) وهكذا بعد أن أصبح للإسلام موطئ قدم، وأصبحت له عاصمة، ذل فيها الكفر وعز الإيمان، وتتابعت الحروب وحاول قومه محاربته في غزوة بدر وأحد، واليهود يحاربونه من الداخل والمشركون من الخارج.

فغزوة بدر كانت الفرقان وكانت الفاصلة وكانت العز، إلى أن جاء بعد ذلك فتح مكة الذي أذل الله فيه الكفر وأعز الإسلام، ومنذ ذلك اليوم والإسلام عزيز.

فالمسلمون إذا استمسكوا بدين الله وبكتاب الله وبقيادة محمد نبيهم عليه الصلاة والسلام يعزهم الله ويملكهم العالم، وعندما يتبعون كل ناعق من يهودي أو نصراني أو منافق، ينزل الله عليهم العذاب والمحنة، وقد كان هذا في عقود مختلفة، وعندما يعودون ويئوبون إلى الله بالتوبة يتوب الله عليهم وينصرهم كما نصر الصحابة ففتحوا العوالم.

ثم لما عاد المسلمون إلى معصية الله ورسوله سلط الله عليهم الصليبيين في حروبهم الصليبية، فاحتلوا فلسطين والمسجد الأقصى، ثم لما تابوا وأنابوا أعز الله الإسلام، ثم فتحت القسطنطينية فأصبحت تسمى إسلام بول -أي: دار الإسلام- وهي دار الإسلام إلى اليوم.

ثم عاد المسلمون للكفر وللمعصية فسلط الله عليهم التتار فاستباحوا الأعراض والدماء والأموال، فجعلوا من البلاد عاليها سافلها، ثم تابوا وأنابوا فعاد الله عليهم بتوبته وبمغفرته، ثم عادوا فقصروا فسلط الله عليهم الاستعمار الأوروبي، فما كاد يترك رقعة من أرض المسلمين إلا واحتلها، وفرض أوامره وكفره فهو الحاكم والمسير، ثم عادوا بعدما أكرمهم الله بالاستقلال وعودة الديار إلى الإسلام فحكمها مرتدوها وكفرتها، فسلط الله عليهم أذل وأحقر خلقه اليهود الذين لعنوا إلى يوم القيامة، ومهما صنعوا أو فعلوا أو حاولوا شيئاً إلا زاده الله عليهم ذلاً، فإذا عدنا إلى الله عودة صادقة فإن الله سيهلك اليهود، ويعود المسلمون لعزهم ونصرهم، والله فاعل لا محالة جل جلاله، وكما يقول ربنا: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:١٦٧].

وهكذا نكون قد ختمنا سورة الزخرف.