للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار)]

وقوله: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف:٣١]، أي: لهم جنات وليست جنة واحدة.

يحكى أن هارون الرشيد كان في بعض لياليه التي كان يسرف فيها على نفسه، فنازعته إحدى جواريه فقالت له: أأنت خليفة المسلمين؟ والله! لن تدخل الجنة، فقال لها: لي جنتان، وسأدخل الجنتين وأقسم لها بالطلاق، فبعد أن قال هذا إذا به أخذ يفكر ما الذي صنع، وكيف يحلف على غيب لا يعلمه إلا الله، وكان الوقت في منتصف الليل، فأرسل خلف أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، فجاء منزعجاً لأن هذه الأوقات لا يدعى فيها إلا من يراد تأديبه، فدخل عليه، فقال: أفتني يا أبا يوسف: الجارية الفلانية قالت لي: لن ترى الجنة، أأنت الذي تزعم أنك خليفة المسلمين؟ فأقسمت لها بالطلاق إني سأدخل الجنتين، فقال له: إني سائلك يا أمير المسلمين! قال: اسأل، قال: وتحلف لي بالله، فتردد هارون، قال: إما أن تفعل وإما أن لا جواب عندي، فقال: أقسم، قال: هل تخاف الله؟ قال: نعم، قال: احلف، قال: والله إني لأخاف الله، فقال: أبشر، فالله تعالى يقول: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:٤٦]، فسُرَّ هارون.

والكلام أولاً كان مزاحاً فأصبح جداً.

والمؤمن يرجو الله في كل الأوقات، وإن كان لا بد أن يكون بين الخوف والرجاء، فتارة يخاف العذاب والعقوبة، وتارة يطمع في الرحمة.

قوله: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [الكهف:٣١] والعدن أي: الإقامة الدائمة الخالدة، أي: جنة الإقامة الدائمة، وليست جنة واحدة، فالمؤمن يستحق الجنان، فيتنقل في منازل الجنة وفي درجاتها، فينزل لما هو أدنى ولا يصعد لما هو أعلى، ولكن المحب المتعلق قد يصعده حبه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب)، والفردوس منزلة الأنبياء والمرسلين، وهي أعلى درجات الجنان.

{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف:٣١]، فأنهار الجنة تجري يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً، إلى ما يتصور الإنسان من لذائذ ومتع تتمتع بها العين، وتستمتع بها الأذن والبشرة، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وهي كما قال الله جل جلاله: {فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف:٧١].

قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:٣١].

يقول جل جلاله: المنعمون من أهل الجنة، وهم الذين آمنوا بالله رباً وبنبيه محمد عبداً ورسولاً لهم الجنان، يمتعون بما فيها من حواسهم، فهم {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف:٣١]، أي: يلبسون فيها الأساور التي حرمت في الدنيا فإنها تحل لهم في الآخرة.

والذهب حرام على ذكور الأمة المحمدية، حلال لإناثها، وفي الآخرة يلبسونها، ويلبسون ثياباً من سندس خضر، وقديماً قالوا عن الخضرة ما قالوا، وبأن النظر إلى المياه المتدفقة وإلى الخضرة اليانعة، وإلى مايسر العين تزيد في صحة البصر، وتزيد من قوة النفس، وألبسة أهل الجنة الخضرة من سندس وإستبرق، والسندس رقاق الألبسة، وما يلبس عادة قمصاناً وما إليه من الألبسة الداخلية، فهي الألبسة الشفافة، وهي من حرير منسوج بالذهب واللؤلؤ وما إلى ذلك مما لا يخدش ولا يؤذي البدن.

أما الإستبرق فهي الأثواب الخارجية من الحرير ذي الذهب وذي الفضة، وذي اللآلئ على أشكال وألوان.

يقول ابن عباس رضي الله عنه: كل ما ورد في الجنة من نعيم مأكول أو ملبوس أو مشروب أو منظور ليس من الدنيا فيه إلا الأسماء، وأما الذي في الآخرة فالله أعلم بشكله.

مع اليقين أن المتعة في الجنة تكون بالأجسام والأرواح، ومن أنكر ذلك فهو كافر حلال الدم، أي أن من قال: إن البعث لا يكون إلا بالأرواح، والتمتع لا يكون إلا بالأرواح، والعذاب لا يكون إلا على الأرواح، فلا يقول ذلك إلا أهل الكفر من أهل الكتابين، ويقول ذلك بعض المبتدعة ممن ضل وأضل وارتد.

فالبعث يكون بالأجسام وبالأرواح، والمتعة كذلك، لكن عندما نرى النبي عليه الصلاة والسلام يقول لنا: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت)، فلو أردنا أن نقيس ما في الجنة من نعيم على ما في الدنيا، لوجدنا أن الله قد ذكر الموز ونحن رأينا الموز في الدنيا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (فيها ما لا عين رأت)، وفيها الحور العين مع أشباههن، فنحن رأينا النساء في الأرض، ورأينا الجمال في ذروته، ومع ذلك يقول لنا نبي الله عليه الصلاة والسلام: (فيها ما لم تر عينك، ولا سمعت أذنك، ولا خطر على قلب بشر).

لكن الله جل جلاله يقول: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف:٧١]، إذاً كما قال ابن عباس: كل ما ذكر من نعيم في الآخرة من نساء، ومن طعام، ومن شراب ليس فيه ما يشبه الدنيا إلا بالأسماء، أما غير ذلك فالله أعلم بحقيقته، وهذا يؤكده القول النبوي الصحيح في الصحاح: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت)، ومعناه أن كل ما سنرى في الجنة بفضل الله وكرمه ورحمته لم تره أعيننا في الدنيا، ولم تسمعه آذاننا في الدنيا، ولم تتخيله ولم تتصوره خواطرنا وخيالاتنا.

{وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف:٣١]، الأرائك جمع أريكة، وهي المقاعد المرتفعة ذات الصوف والقطن والحرير.

قال تعالى: {نِعْمَ الثَّوَابُ} [الكهف:٣١] أي: هذا اللباس الأخضر، وهذا الدمقس الحرير، والسندس، وهذا الديباج على أشكال، هو نعم الثواب.

والإستبرق في الدنيا له أسماء، فيكون السندس ثياباً حريرية شفافة تلبس قمصاناً وأثواباً داخلية، ويكون الإستبرق ثياباً حريرية ديباجية غليظة، ويكون ألبسة خارجية، ومعنى ذلك أن الألبسة الداخلية والخارجية في الجنة هي من أعلى أنواع ما يتمتع به الإنسان مما لا يخطر ببالك في الدنيا.

{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف:٣١] أي: يجلسون في قصورهم، وفي جنانهم على الأرائك وهي: الفرش الواسعة المرتفعة التي يتمتع بها الإنسان في دنياه، فمهما غلت، ومهما أترفت، ومهما تكن، فما في الدنيا مما في الآخرة إلا ما يشبهه بالأسماء.

قالوا: والأريكة هي سرير تحت الحجلة، كما يسمى اليوم الناموسية، فهي أسرة وعليها أغطية تغطي الإنسان.