للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفاً)

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت:٥٨].

فالعاملون هم الذين صبروا، وعلى ربهم يتوكلون، وفي الآية الماضية حكى الله تعالى عن الكافرين أن مأواهم النار خالدين فيها، تغشاهم النار من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وتحيط بهم من جميع جهاتهم، وتقول لهم ملائكة العذاب: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:٥٥] أي: ذوقوا نتيجة عملكم وكفركم فقد جاءكم الأنبياء، وجاءتكم كتب الله، وجاءكم خلفاء الأنبياء من الدعاة والعلماء يأمرونكم بطاعة الله ورسوله، والعمل لمثل هذا اليوم، فابتعدتم وصددتم عن الله، أما وقد كان ما كان، فانتظروا ما يكون.

وفي هذه الآية ذكر الله حالة المؤمنين وسنة الله في كتابه أن يجمع دوماً بين الكلام على المؤمنين ثم الكافرين، وبين الرحمة والعذاب؛ ليعيش الإنسان بين الرغبة والرهبة، وبين الخوف والطمع، وبين أن يرهب ويرجو ويتمنى.

وعبادة الله هكذا بين الخوف والرجاء، فيخاف المؤمن عذاب الله، ويرجو رحمته، يرى صفة الكافرين فيبتعد عنها، وصفة المؤمنين فيسعى إليها.

فقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} [العنكبوت:٥٨] أي: الذين آمنوا بالله عقيدة وقلباً ولساناً، ثم بعد الإيمان جاء منهم عمل الصالحات.

فلابد في الإيمان من قول وعمل، القول باللسان مع مطابقة الجنان، والعمل بالطاعات صلاة وصياماً وغيرها من الأركان الخمسة، كما يقول نبينا عليه الصلاة والسلام (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه).

فعليك ترك المنكرات بكل أشكالها، وأنواعها، ظاهرها، وباطنها، وفعل الخيرات ما بلغته طاقتك وقدرتك فالصيام مثلاً إن استطعت صحة وبدنا ومقاماً فصم، وإن منعك مانع كالمرض، أو كنت في سفر، أو حاضت المرأة أو نفست، أو كانت حاملاً متماً تعجز عن متابعة الصيام، فتلك رخص أذن الله فيها بالفطر، على أن تعوض الأيام بعد ذلك عند الحضور من السفر، وعند الصحة من المرض، وعند انقطاع دم الحيض والنفاس، وهكذا كل الأوامر، جعل الله أقصاها كما أمر، وأدناها حسب استطاعتك.

أمرنا بالصلاة قياماً، وبالوضوء بالماء، فإن عجز المسلم عن الماء فليتيمم بالصعيد الطاهر، فإن عجز عن القيام فليصل جالساً، فإن لم يستطع فعلى جنب، فكل ذلك صلاة صحيحة، لأن المسلم أمر بأن يقوم بها حسب قدرته وطاقته، ولا يكلف الله نفس إلا وسعها.

قوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} [العنكبوت:٥٨].

فيه معنى القسم، يقسم الله للمؤمنين العاملين بالصالحات ليسكننهم في الغرف العالية من الجنان.

فوعد المؤمنين العاملين للصالحات المهتدين بهدي الأنبياء، القائمين بما أمروا به، والتاركين ما نهوا عنه؛ ليسكننهم وليجعلن لهم مساكن وقصوراً في الغرف العليا من الجنة.

وغرف: جمع غرفة، وهو المكان العالي من المنزل، والطبقة العالية في الدار.

{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [العنكبوت:٥٨] أي: أن المياه متدفقة بين أيدهم وأرجلهم، يعطون جمال المنظر، ويعطون رطوبة الجو ومع الماء يكون كل خير تكون الفواكه والثمرات والخضرة والطير وكل ما إلى ذلك.