للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب)]

قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [العنكبوت:٢٧].

قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ} [العنكبوت:٢٧]، مما يؤكد أن الضمير في قوله: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:٢٦] عائد على إبراهيم وأنه هو المهاجر؛ إذ الموهوب له إسحاق ويعقوب هو إبراهيم عليه السلام، فالكلام لا يزال عاماً والآيات في نسقها وتسلسلها كلها عن إبراهيم، وما ذكر لوط معه إلا استطراداً في أنه مع طول هذه الأوقات والأزمان لم يؤمن به أحد إلا لوط ابن أخيه.

قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [العنكبوت:٢٧] إسحاق هو الولد الثاني لإبراهيم، وقد وهبه من زوجته سارة، وقبله وهب الله تعالى لإبراهيم إسماعيل، كانت سارة أم إسحاق قد غارت من إسماعيل وأمه أن كان لها ولد وهي عقيم، فأدرك ذلك إبراهيم عليه السلام، فخاف على ولده إسماعيل منها وهو النبي الكريم والرسول الذي في ذريته النبوة والكتاب، فنقله إلى موضع مكة المكرمة -المكان الذي فيه ماء زمزم- كما مضى ذلك وسيعود في الكلام على ذكر إسماعيل ورسالة إسماعيل ونبوة إسماعيل.

وقد كان إسحاق نبياً فقط، وكان إسماعيل نبياً رسولاً، ولا شك أن النبي الرسول أفضل وأكرم، إذ إن النبوة وحي إلى رجل ليعلمها في نفسه ولم يكلف بأن يبلغها غيره، فمصلحته هو دينه، وعبادته مقصورة عليه فقط، أما الرسول فهو رجل أوحي إليه بشرع، وأمر به في نفسه وأن يبلغه لغيره، وكان كذلك إسماعيل.

وقد وهب الله تعالى لإبراهيم زيادة على أن وهب له قبل ذلك إسماعيل إسحاق، ثم في حياته وهبه حفيداً نبياً كذلك وهو يعقوب بن إسحاق، فما مات إبراهيم حتى كان له من سلالته ثلاثة أنبياء: ولدان وحفيد، والحفيد ولد، فالأب عندما يولد له ولد يكون قد وهب ذلك، فإذا جاء الحفيد كان ولداً مرتين: مرة لأبيه ومرة له.

وقد حاول بعضهم ألا يفهم سياق قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) ولا يقابل الآي بعضها ببعض ويدع بعضها يفسر بعضاً فقال: إن إسحاق ويعقوب كليهما ولدا إبراهيم من صلبه وليس أحدهما ولداً والآخر حفيداً، وهذا كلام مرجوح يدل على غفلة ووهم، وإلا فذاك مذكور ومعروف بالتواتر قرآناً وسنة وفي جميع كتب التأريخ القديمة التي تقص تأريخ الأنبياء وحياتهم.

فمعنى الآلة: {وَوَهَبْنَا لَهُ} [العنكبوت:٢٧]، أي: لإبراهيم، {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [العنكبوت:٢٧]، أي: وهب له إسحاق ومن بعد إسحاق يعقوب، فبعد أن يصبح إسحاق رجلاً بالغاً متزوجاً سيولد له كذلك، فولد له يعقوب، ولذلك يقول تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد:٢٦] أي: في ذرية إبراهيم وإسحاق، فكل نبي جاء بعد إبراهيم فهو من سلالته وذريته، والذرية: الأولاد والسلالة -ولا تزال هذه الكلمة في لهجة المغرب إلى اليوم فيقولون عن الأولاد: ذراري- وكما جعل الله كل من جاء من الأنبياء بعد إبراهيم من أولاده وسلالته جعل كل كتاب كان بعد إبراهيم في ذريته وسلالته، فإبراهيم ولد إسماعيل وولد إسحاق، وإسحاق ولد يعقوب، ويعقوب ولد يوسف، وكل من جاء بعد ذلك فهم من سلالة يعقوب من أنبياء بني إسرائيل إلى خاتمهم عيسى، فهو ابن إبراهيم من أمه ولا أب له.

فكان يعقوب أبا أمه كما نقول: الحسن ابن رسول الله والحسين ابن رسول الله صلى الله عليه وعليهما وسلم، فهما ولداه لأنهما من ذريته من بنته فاطمة، ثم هما من عشيرته بني عبد المطلب، فهو يجمع الكل أبوة وهو يجمع الكل أمومة.

فـ الحسن والحسين ابنا علي وعلي ابن عبد المطلب وعبد المطلب كما هو جد علي هو جد النبي صلى الله عليه وسلم.

فيعقوب هنا هو حفيد إبراهيم، وجميع من جاء بعده من سلالته هم من بني إسرائيل، فهم جميعاً ذرية إبراهيم، ونبينا عليه الصلاة والسلام، كذلك فجده الأعلى هو إسماعيل، وإسماعيل هو ابن إبراهيم، فكان من الخصائص التي خص الله إبراهيم عليه السلام بها كما خص نوحاً من قبل أن جعل الأنبياء من أبنائه، إذ إن نوحاً انفرد بالأبوة لأن الطوفان غمر كل الأرض، فكان الأب الثاني للبشرية بعد آدم، وكان أبا الأنبياء من بعده إلى إبراهيم، وكان إبراهيم الوالد الأعلى لمن جاء بعده من الأنبياء، فهو والد إسحاق وإسماعيل، وإسماعيل أبو نبينا عليه الصلاة والسلام الأعلى، وإسحاق أبو أنبياء بني إسرائيل الأعلى.

أما الكتب فإن التوراة نزلت على موسى وهو من أنبياء بني إسرائيل من سلالة إبراهيم، والزبور نزل على داود وهو من أنبياء بني إسرائيل من سلالة إبراهيم، والإنجيل نزل على عيسى وهو من سلالة إبراهيم، والقرآن الكريم نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو ولد إبراهيم من ولده إسماعيل، فكانت كل الكتب السماوية وكل النبوات والرسالات بعد إبراهيم في سلالته، ولا أشرف ولا أكرم ولا أعظم من ذلك، وليس ذلك فحسب بل إن الله خص إبراهيم بالخلة فكان خليل الله، ثم كان نبينا بعد ذلك خليل الله.

قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد:٢٦]، فالكتاب جنس، أي: كتاب الإله المنزل زبوراً وتوراة وإنجيلاً وقرآناً، فكلها نزلت على الأنبياء والرسل من سلالته ومن ذريته.

قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} [العنكبوت:٢٧].

وقد أكرم الله إبراهيم حيث وفى بالوعد، وقام بجميع ما أمره ربه به، وكان المثال الذي يحتذى به من أولي العزم من الرسل في جميع ما أمره الله به أو نهاه عنه.

وقد أكرمه الله بإكرامات لم يكن لها نظير أو شبيه، ونبينا عليه الصلاة والسلام لم يكن في ذريته النبوة والكتاب، ولكن كان الأمر أعظم من ذلك، فكان هو النبي والرسول لكل الأمم من البشر بعد مبعثه، وأما أولئك الماضون فلم تكن نبوءتهم إلا مقصورة على أقوامهم وتنتهي بوفاتهم، أما نبوة نبينا فلقومه ولمن كان في عصره ولمن جاء بعده إلى عصرنا، ولمن يأتي بعدنا إلى يوم القيامة، فكتابه المنزل عليه هو كتابنا وكتاب الأولين والآخرين، كل ما فيه: (يا أيها الناس!) فنحن الناس المخاطبون، وكل ما فيه (يا أيها الذين آمنوا!) فنحن الذين آمنوا المخاطبون فيه، وكل ما فيه من أوامر ونواه فنحن الذين نؤمر بها وننهى عنها كما أمر الأولون ونهوا، وكما سيظهر التالون وينهون.

فهو الرسول العالمي لكل الأمم والعصور مشارق ومغارب، بيضاً وسوداً، حمراً وصفراً، ولم يكن هذا في إبراهيم؛ ولذلك طلب من الله أن تسترسل النبوءة بعده إلى أن تكون في ذريته.

{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} [العنكبوت:٢٧]: والأجر الذي أعطاه وهو لا يزال في الدنيا كونه أولاً وهب له الأنبياء والمرسلين في حياته، وهب له ولدين جميلين نبيين كريمين إسماعيل وإسحاق، ووهب له في حياته يعقوب من ولده إسحاق، ثم جعل النبوءة في سلالته إلى نبينا صلى الله عليه وعليهم أجمعين، ثم أكرمه كذلك فجعل الكتب السماوية جميعها تنزل على سلالته وأولاده: داود وموسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً صلاة الله وسلامه، ثم جعله محترماً مقدراً عند جميع الأديان.

فالنصارى يدعونه ويقولون: هو نبينا الأول، فيجلونه ويكرمونه ويذكرونه بالخير، واليهود يقولون ذلك فيجلونه ويكرمونه، والمجوس منهم من يسمون بالبراهمة نسبة إليه، وعبدوا النار قالوا: لأنها أطفئت على إبراهيم؛ فعوضاً عن أن يعبدوا خالق النار والذي أطفأ النار، والذي أنقذ إبراهيم من النار، تركوا المسبب وعبدوا السبب لجهلهم وسخافة عقولهم.

فإبراهيم كان مقدساً محترماً عند المجوس وعند اليهود والنصارى والمسلمين، وبذلك آتاه الله أجره في الدنيا.

{وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت:٢٧]: أي: وفي الآخرة سيكون في زمرة الصالحين زمرة أبيه الأعلى آدم وأبيه الثاني نوح، ومع سلالته من الأنبياء والرسل الكرام، فهو أيضاً من جملتهم وينال منالهم ويكرم كرامتهم، ويكون في الفردوس الأعلى من الجنان حيث منازل الأنبياء والمرسلين.