للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج)]

قال الله جل جلاله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:٤٠].

يضرب الله جل جلاله في الآية السابقة مثلاً لنور هدايته، ونور رسالته، ونور ما أرسله من أنبياء وكتب إلى الناس كافة، ضرب لذلك مثلاً بمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، إلى أن قال جل جلاله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:٣٥]، فالله يهدي لهذا النور من يشاء من عباده، فقد هدى في الأمم السابقة واللاحقة ثلة من الأولين، وقليلاً من الآخرين.

وهنا يضرب جل جلاله مثلاً لظلمات الشرك، وسواد الشرك وريبه وضلاله، يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:٣٩]، فشبه ظلمات الشرك والكفر بالسراب الذي لا ظل له ولا حقيقة له، وإنما هو خداع للنظر والرؤية، فليس هو ماء حقاً، ولا غياثاً حقاً، وإنما هو سراب وشعاع تأتي به الشمس فيظهر في الأرض المتسعة وكأنه ماء، فيأتيه الصادون فلا يجدون شيئاً.

وفي الآية الثانية: ضرب الله لهم مثلاً آخر، فقال عنهم: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} [النور:٤٠] مثال ظلمات الكفر، وسراب الشرك، وضلال من لم يؤمن بالله، ولم يعمر قلبه بذكر الله ورسوله، والإيمان بهما، والامتثال لأمر الله ورسله، فوق السراب الذي لا حقيقة له، مثاله كظلمات في بحر لجي، واللجي: البحر العميق المتلاطم الأمواج، الكثير المياه، وهو مع ذلك يغشاه موج، أي: يركبه موج ويغطيه، (يغشاه موج من فوقه موج) فهي أمواج متلاطمة متضاربة وكأنها الجبال، فحتى الأمواج نفسها تتلاطم فتعلوها أمواج (يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب) فهي أمواج متراكبة متلاطمة كأنها الجبال، يغشى بعضها بعضاً، ويركب بعضها بعضاً، ثم فوق الكل سحاب وغمام، كما قال جل جلاله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور:٤٠] أي: ظلمات البحر، وظلمات الموج، وظلمات السحب، وظلمات الليل، فهي ظلمات بعضها فوق بعض، ومن شدة هذا الظلام: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:٤٠] و (يكد): من أفعال المقاربة، أي: يقارب ولا يصل، كما نقول: كاد النعام أن يطير، وهو لا يطير ولكنه قارب ذلك؛ إذ هو من أنواع الطيور وله جناحان، ولكن جسمه أثقل من جناحيه، وجناحاه أقصر من جسمه، حتى ولو حاول الطيران فلن يستطيع، وهكذا هذه الظلمات، فهو يحاول أن يمد يده لشدة الظلمة المتراكبة ليراها لكنه لا يستطيع؛ لشدة الظلمة، فهو تشبيه وضرب مثل من الله تعالى لظلمات الكافر، فقوله ظلمة، وعمله ظلمة، وسيرته ظلمة، ويعتقد الظلم والظلام، فهو في ظلمات الشرك، وظلمات الفواحش، وظلمات العقائد، وظلمات الظلم والإيذاء، ومعاكسة أوامر المؤمنين والمسلمين، والصد عن الله وكتابه، وعن الرسول وسنته، فهو ظلمة مركبة، ظلام متراكب، ومن هنا يحذرنا الله من الاتصال بأمثال هؤلاء قبل أن يعدوا المؤمنين، فإن لم يعدوهم بالقول كانت العدوى بالفعل أو بالعقائد أو بظلمة من هذه الظلم، فإنه لا تكاد ظلمة تصيب مؤمناً إلا وسرت فيه بقية الظلمات كما نرى في واقع الحال الذي نراه في عصرنا.

فترى الطالب أو العامي أو الرحالة العالم يبتدئ لأول مرة في قراءة كتاب معين أو مقالة أو محاضرة أو محاورة إنسان، هكذا يبتدئ وهو مصمم على عقائده وعمله، ولكنه لا يكاد يتصل بهم بشكل من الأشكال وإذا بآرائهم، وإذا بظلمتهم تتسرب إليه، وإذا بك تفاجأ بهؤلاء يقولون بعض ذلك في دروسهم، وفي كتابتهم، وفي محاضراتهم، وهكذا عم الفساد وطم في البحر والجو، والأرض والسهل والجبل، والله ما أعلن لنا ذلك إلا ليحضنا على تركه، وينفرنا منهم، فالضياء لا يليق أن يضيع نوره وشعاعه بسبب هذه الظلمات المتراكبة.

وضياع هؤلاء إما سراب لا حقيقة له، وأوهام باطلة لا وجود لحقيقتها، أو ظلمات بعضها فوق بعض: كلاماً وعملاً وعقيدة وسلوكاً وكلما يصدر عنهم، فهم في ظلمات بعضها فوق بعض، ومن شدة هذا الظلام وتراكمه، والتفافه، وتجمع بعضه ببعض يكاد الكافر إذا أخرج يده لم يراها، فإذا أراد أن يتلو آية، أو أن يسمع حكمة، أو أن يجالس مؤمناً فشدة الظلام التي هو فيها تبعده عن أن يفهم ذلك، ولذلك كان يقول الإمام مالك رحمه الله: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.

فيبعد عن الفساق، ومن باب أولى عن المنافقين والكفار، أن يتخذهم الإنسان شيوخاً، وأن يتخذهم دعاةً، وأن يهتم بأقوالهم وبكتبهم وبرسائلهم وما إلى ذلك.

{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:٤٠]، من لم يهده الله ويعطه من نوره، وهو نور السماوات والأرض، (مثل نوره) مثل هدايته التي يهدي بها من شاء، ولمن شاء وكيف شاء جل جلاله، ومن يهده الله فلا مضل له، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:٤٠]، من لم يهده الله ويعطه من نوره وهدايته وحكمته، ومن كتابه المقدس المعجز، ومن نبوءة أنبيائه، ومن هدايتهم، ومن سنتهم، فسيبقى ضالاً مضلاً يخبط في ضلاله خبط عشواء.