للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر ما روي من خبر أهل الكهف]

ويروى في الأخبار أن هؤلاء الفتية كانوا في عصر دقيانوس، وقد زعم بعضهم أنه كان في أرض العراق، وزعم بعضهم أنه كان في أرض فلسطين، والأسماء لا عبر فيها ولا ينبني عليها عمل، ولا يمكن القطع بشيء من ذلك؛ بل قد ذكرت أسماء هؤلاء الثمانية الذين كانوا في الكهف، وذكر اسم كلبهم كذلك، واختلفوا في الأسماء، ولا حاجة لهذه الأسماء؛ لأن العبرة ليست في الاسم، ولكن العبرة فيما جرى لهم، وفيما تم على أيديهم، وفي قدرة الله، وأن البعث قد حصل في الدنيا قبل الآخرة؛ ليعلم من ينكر البعث أن الله جل جلاله الذي جعل البعث إلى يوم القيامة قادر على أن يجعله في الدنيا ويبتدئه في الدنيا.

فـ دقيانوس كان وثنياً، فكان يؤتى بالناس كبارهم ثم صغارهم فيأمر بذبحهم على أصنام صنعها ويقول عنها: هي الآلهة، فكان من خالفه يذبحه من ساعته.

وكان له قرابة بأحداث صغار، ولعلهم كانوا بين الخمسة عشر والعشرين عاماً، فهؤلاء فكروا، فقالوا: كيف يصنع دقيانوس من حجر صنماً ثم يقول للناس: هذه آلهتكم فاسجدوا لها وتقربوا إليها، واذبحوا عليها قرابينكم، وكان كل إنسان منهم يفكر هذا التفكير على حدة.

وفي يوم احتفال اجتمع الناس، فاجتمع هؤلاء الفتية، وأخذ كل شاب يكلم الآخر بما في نفسه، فتبين أنهم أنكروا الشرك وعبادة الأوثان، وقالوا: لا بد من أن يكون لهذا الكون خالق، فآمنوا بالله، واتبعوا ما سمعوا من أديان سابقة.

وقد اختلف الناس: هل كان هذا بعد إرسال عيسى أم كان قبله؟ قال ابن كثير: لو كان هذا بعد عيسى لما دل عليه علماء اليهود، فهم لا يؤمنون بعيسى، ولا يعتقدونه نبياً، ويقذفون أمه، وكيف يدلون أهل مكة على أن يسألوا محمداً عليه الصلاة والسلام عن قصة فتية يؤمنون بما كفروا به؟! فذلك يدل على أن هؤلاء كانوا قبل عيسى، كانوا من الموحدين من أتباع الأنبياء السابقين.

فلما علموا الحق كفروا بالأوثان، واتخذوا مكاناً للصلاة وللعبادة، وإذا بـ دقيانوس يبلغه الخبر، فأرسل إليهم: ألستم بمؤمنين بآلهتي؟ فقالوا: لا.

وقد كان عليه شارة الملك، فأمر بإحضارهم، ثم أرجئوا إلى الغد تكرمة لقرابتهم، وقبل أن يأتي الغد فكروا طويلاً، فقال بعضهم لبعضهم: نحن غداً إما مشركون، ونعوذ بالله من الشرك، وإما مقتولون شر قتلة، فماذا نصنع؟! فتداولوا الأمر، وكانوا سبعة، واتفق الكل على الاختباء في غار ذكروا له اسماً، وذكروا له محلاً، وبينما هم ذاهبون إذا براع يلحق بهم فيسألهم أن يذهب معهم، فأبعدوه، فأصر، فاصطحبوه فتبعه كلبه، فأصبحوا ثمانية ومعهم كلب، فدلهم الراعي على كهف فساروا إليه، فلما دخلوه ضرب الله على آذانهم، فمنع أن يصل إليها سماع أي شيء، لأن النائم إذا كثرت عليه الأصوات أزعجته وأيقظته، والله أراد أن ينيمهم ثلاثمائة من السنين وتسعاً، فأصم آذانهم عن أن يسمعوا شيئاً.

وكانت الشمس تدخل عليهم صباحاً ومساء ولا تمسهم، فيبقى شعاعها وضوؤها، وإلا لو مستهم الشمس لأضرت بهم.

وكانوا يتحركون يميناً وشمالاً، فالهواء يدخل، والشمس تنظف وتطهر، ولكن لا تمس الأجساد، بل تتزاور عنهم يميناً وشمالاً في الصباح وفي المساء.

فلما أفاقوا قال بعضهم لبعض: {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:١٩]، وكان الله تعالى قد جعل عليهم في الكهف هيبة، حتى لا يكشف أمرهم قبل أوانه، فكان الناس يأتون الكهف، ومن يحاول الدخول إلى الكهف يشعر بقشعريرة ورهبة وخوف.

فلما أفاقوا أحسوا بالجوع، فأرسلوا أحدهم ليأتيهم بالطعام، فلما خرج أخذ يتلفت يميناً وشمالاً قائلاً: أهذه البلدة التي كنا نعيش فيها؟! فلقد وجد فيها شعارات الإيمان والتوحيد في الطرقات، ورأى أن الناس كلها تنظر إليه، ورأى لباسه غير لباسهم، وأن لحيته وشاربه قد طالا كثيراً، فشعر بأن الناس ينفرون منه، ويرون عجباً في شكله، فكان يمشي في الطريق وعيناه زائغتان، ويلتفت يميناً وشمالاً فلا يجد في البلد من يعرفه، فأخذ يتساءل: هل هذه المدينة قريبة من مدينتي؟! لا أعرف مدينة قريبة منها، وهكذا إلى أن تجرأ بعد ذلك في عيون زائغة، وفي حركات مريبة، وفي وجه مخيف، وفي حركات غير مستقرة، فوقف أمام صاحب دكان فقدم له درهماً فأخذ الدرهم، وبدأ يحقق النظر فيه، فالوجه غريب، واللحية طالت، وزيه غير الأزياء التي يلبس الناس، فلما أخذ الدرهم وجده قد مضى على ضربه قرون، وفيه اسم دقيانوس، فأخذ يتساءل: أين دقيانوس؟ ومتى كان دقيانوس؟ فأمسكه، وقال له: لعلك وقعت على كنز، فإما أن تدلني عليه وأما أن أبلغ بك الإمبراطور الحاكم؟! وارتعد وخاف أن يأخذه إلى دقيانوس قريبه، فيلزمه بالشرك أو يقتله، فينكشف إخوانه الذين تركهم جائعين في الكهف، ثم أخذ يطلع جيرانه في الدكاكين على هذا الدرهم، فجمع عدداً، وإذا بالكل يلتف حوله، قائلين: من أنت؟ ومن أين جئت؟ ومن أي بلد؟ فأخذ يتكلم، ثم أخذ يبكي حين شعر بأنهم موحدون، فأخذ يفرك عينيه، ليعلم أصاح هو أم نائم، وما هذه البلدة؟! فهل اختطفته الجن؟! ولم يعرف ما جرى.

فأخذوه إلى حاكم البلد، وهو يظن أنهم سيأخذونه إلى دقيانوس، فوقف أمام حاكم البلد، فوجد على الناس شارات الإسلام والإيمان، فسألوه: من أنت؟ فسمى نفسه، وأخذ يقول لهم: لا تأخذوني إلى دقيانوس، فلم يعرفوا الاسم، وسألوه عن قريبه فقال: دقيانوس، فقالوا: أنت مجنون، من أين جاءك هذا الدرهم؟! فقال: درهم -والله- لم أسرقه، ولم آخذه من أحد.

ثم قال: اذهبوا معي إلى إخواني في الكهف، وكانوا قد سمعوا قصة الكهف والرقيم، وهي أن جماعة من الشباب من الأسرة المالكة فروا بدينهم إلى الكهف، ولم يخرجوا، وأن أسماءهم كتبت على لوح من رصاص أو من حجر، ووضعت في جانب من الكهف، فذهبوا فقرءوا اللوح، فأدركوا آنذاك أن هذه معجزة وآية، ففرحوا بأن الله أحياهم ليعلموا أنهم على دين حق، وأن البعث والنشور المنتظر حق، أدركوا ذلك وهم أحياء، فبادروا واتصلوا بملكهم، فجاء مسرعاً، فرأى الرقيم، فدخلوا عليهم، فلما دخلوا عليهم رعبوا، وهابوهم وفزعوا منهم، وجاء ذلك الذي خرج ليأتي بالطعام فدخل الكهف، وبعد أن تجمع الآلاف وحصلت ضجة في البلد مات أصحاب الكهف، فقالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:٢١].

فبنوا المسجد، وبقي ذكرى لوجودهم، وذكرى لإيمانهم، وذكرى لما أظهر الله من قدرته على البعث في الدنيا قبل الآخرة.

وفي سورة الكهف أيضاً ذكر قصة ذي القرنين الذي جاب الآفاق، وفيها قصة ذي الجنتين مع أخيه الذي لا جنة له، وهذه كانت زيادة في الوعظ والإرشاد والتعليم والإيمان، والبعد عن البخل، وعدم أداء الحقوق للفقير والمسكين.