للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً)

قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:٢٥].

بقي إبراهيم بعد هذا العذاب، وبعد القذف في النار على دعوته لله، وقال لهؤلاء الكفرة الفجرة: يا هؤلاء! لم تكن عبادتكم للأوثان من دون الله إلا مودة بينكم -أي: إلا بالمودة والمصادقة والمؤاخاة- فما وجدتم شيئاً يجمع إخوتكم ومودتكم وصحبتكم إلا الشرك بالله والكفر به، وعبادة أوثان لا تضر ولا تنفع نفسها فضلاً عن غيرها، أما كان الأجمل بكم والأليق بعقولكم أن تكون المودة الرابطة هي الأة في الله، والحب في الله ذاك الحب الدائم، وتلك المحبة الدائمة؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -وذكر منهم-: ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه).

ويقول الله عن أخوة الكافرين: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٦٧]، وقد جمع بين الأخوة في الله والأخوة في الشيطان، ثم بين أن الأخوة الشيطانية تنقلب إلى عداء وبغضاء يوم القيامة، فيتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، ويلعن بعضهم بعضاً، ويكفر بعضهم ببعض، (إلا المتقين) أي: إلا أخوة التقوى فهي الباقية الدائمة، فكما كانت في الدنيا هي كذلك في الآخرة يوم يجمعهم رضوان الله، وتجمعهم رحمة الله، وتجمعهم الجنان وهم إخوان على سرر متقابلين.

قوله: {قَال} [العنكبوت:٢٥] أي: إبراهيم.

{إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} [العنكبوت:٢٥] أي: جعلتموها أرباباً من دون الله.

{مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} [العنكبوت:٢٥] أي: لأجل المودة والصحبة والأخوة، وليرضى بعضكم عن بعض، ويصاحب بعضكم بعضاً.

{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} [العنكبوت:٢٥]: فليس اتخاذكم ذلك إلا في الدنيا ولمن أصر على الكفر، أما يوم القيامة فسيكفر بعضكم ببعض، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:١٦٦].

فكل أسباب الصحبة والمودة تنقطع، ويقول الأئمة عن تابعيهم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:٤]، ويقول الأتباع: أنتم الذين أضللتمونا فنحن نتبرأ منكم، ربنا زدهم عذاباً ضعفاً من النار، فكان

الجواب

{ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف:٣٨]، {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:١٠٨]، فأنتم أحقر من أن يطلب أو يتكلم أو يرجو.

وهنا يقول تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:٢٥]: أي: فشأنكم يوم القيامة التلاعن والشتائم والسباب، يتبرأ بعضهم من بعض، فيتبرأ التابع من المتبوع، والمتبوع من التابع.

قوله: {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} [العنكبوت:٢٥]: المأوى: المنزل والمسكن، فيجمع أئمة النار وتابعيهم، ويجمع كبراء الكفر وأتباعهم في النار، فيجادل بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، ويكفر بعضهم بعضاً.

قوله: {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:٢٥]: أي: ليس لكم سلطان ولا جاه، ولا مال ولا قوة، ولا جيوش ولا حشم، فلا ناصر من دون الله، يوم يخذلون من القريب والبعيد من التابع والمتبوع، يوم يأتون فرادى كما خلقوا وينادي الجبار: {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:١٦]؟ فلا يجيب أحد، ثم يجيب الله نفسه بنفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:١٦].