للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ولقد مننا عليك مرة أخرى)]

قال الله جل ذكره: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} [طه:٣٧ - ٣٩].

يذكر الله جل جلاله مننه على نبيه ورسوله موسى عليه السلام، فكما أنه كلمه وشرفه واستجاب دعوته وحقق رغبته في جعل أخيه هارون نبياً معه ووزيراً، يقول الله له: ولقد فعلنا بك ذلك قبل أن تخرج لهذا الوجود، وقبل أن تلدك أمك، وبعدما ولدتك أمك وكنت رضيعاً، وعندما صرت غلاماً يافعاً، وعندما تركت مصر خائفاً، وعندما ذهبت إلى أرض مدين، فابتدأ الله بقوله: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه:٣٧].

وهذه المرأة الأخرى كانت قبل سنين، وكانت هي الأصل من حيث العدد لا من حيث الترتيب الزمني.

فقوله: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} [طه:٣٧ - ٣٨].

كان المن والإكرام، وكان الحفاظ والرعاية والعناية وهو لا يزال في بطن أمه، ثم عند ولادته، وكيف كان ذلك؟ قيل لفرعون الطاغية: إن بني إسرائيل يعتقدون أن منقذاً سيولد لهم، وقد كانوا يظنونه يوسف، وإذا بهم ينتظرونه هذه الأيام ويقولون: سيكون هلاك ملكك وإزالة سلطانك على يده.

فإذا بفرعون يقرر أن يقتل كل وليد يولد لبني إسرائيل منذ اليوم الأول، وإذا بقوم فرعون لا يقبلون ذلك منه، وردوه عليه وقالوا: إذاً يهلك بنو إسرائيل وهم عبيدنا وخدمنا، فمن يتولى خدمتنا بعد فنائهم؟ فاتفق معهم على أن يقتلهم عاماً ويتركهم عاماً، فولد قبل موسى هارون في العام الذي لا يقتل فيه الأطفال من بني إسرائيل، وإذا بموسى يولد في العام الذي يقتل فيه أطفال بني إسرائيل، فمنذ حملت أمه به واسمها مريم، وكانت من فضليات المؤمنات العابدات من بيت النبوءة من بني إسرائيل، فعندما حملته وتوقعته ولداً ركبها من الغم والهم ما الله به عليم.

وإذا بالخوف الذي كانت تخافه أم موسى قد تحقق، فولدت ولداً، وكان الذباحون يتنقلون بين الأزقة والدروب لقتل كل من يبلغهم أنه ولد لبني إسرائيل.

قوله: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} [طه:٣٨].

قال جمع من المفسرين: المعنى: إذ ألهمنا أم موسى ما ألهمناها، ووفقناها لما وفقناها.

ولا حاجة لهذا التكلف، فنقول: أوحى الله لها وهي نبية وليست برسول، والعمل الذي عملته لا يكفي فيه الإلهام، فلو جاءنا إنسان وقال: سألقي هذا الولد في البحر، فلو مات الطفل لقتلناه به ولو ادعى أنه ألهم.

إذاً الإلهام لا يصل إلى أن يهلك بسببه ويمات بسببه ويدمر بسببه، والذي منع الله منه أن تكون المرأة رسولاً، فإن الله جل جلاله لم يوح لامرأة أن تكون رسولاً إلى الناس، وأما النبوءة والوحي الذي لا رسالة فيه ولا تكليف معه فلا مانع يمنعه، وقال بذلك جمهور من علماء العقائد وعلماء الكلام وعلماء التفسير في شريعة الإسلام.