للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات)]

{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:٢٨].

قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:٢٨] المنافع جمع منفعة، أي: ليحضر هؤلاء المنادون والحجيج إلى الديار المقدسة وإلى بيت الله الحرام؛ ليشهدوا ويحضروا منافع لهم؛ منافع دنيوية ومنافع دينية، فمن المنافع الدنيوية: التعارف بين المسلمين، وإن كانت الغاية دينية إن أرادوا ذلك.

ومن المنافع الدنيوية: التجارة والبيع والشراء.

والدينية: عفو الله ومغفرته كما قال الإمام محمد الباقر.

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال بأن الحاج الذي يخرج من الحج وقد قبل منه يخرج كيوم ولدته أمه لا ذنب ولا خطيئة، فكل ذلك يغفر، وكل ذلك يعفى عنه، ويبتدئ حياة جديدة بأعمال جديدة.

{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:٢٨] أي: ليذكروا الله ذكراً متتابعاً متواصلاً بأنواع من العبادات: تالين ومصلين وذاكرين وطائفين بالبيت الحرام وبالكعبة المشرفة، وساعين بين الصفا والمروة، وواقفين في عرفة، إلى بقية مناسك الحج فكل ذلك عبادة.

والحاج منذ أن يحرم ويصلي ركعتي الإحرام، ويغتسل قبلهما ويقول: لبيك لبيك، فهو في عبادة سواءً كان صاحياً أو كان نائماً، ومادام أنه أحرم من هناك كما استحب ذلك الكثير من الفقهاء والأئمة -وإن كان خلاف المنصوص وخلاف الوارد- فبمجرد ما يبتدئ الإحرام من مواقيته فهو في عبادة متصلة إلى أن يعود لبلده، والعبادة بكل أشكالها ذكر لله، ذكر باللسان وذكر بالجنان وذكر بجميع حواس الجسد.

{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:٢٨] الأيام المعلومات عند الجمهور: هي العشر الأول من شهر ذي الحجة، وكان يصومها صلى الله عليه وسلم جميعاً سوى العيد، فإن العيد يحرم صيامه.

وقد قالوا في تفسير قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:١ - ٢] أن الليالي العشر في الآية هي العشر الأول من شهر ذي الحجة.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الأيام المعلومات هي: يوم عرفات، ويوم النحر، ويومان بعد يوم النحر.

وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: الأيام المعلومات يوم النحر، وأيام التشريق بعد يوم النحر.

وقال سعيد بن جبير: أيام التشريق.

وعلى كل: فهذه الأيام التي أشار الله إليها تارة بمعلومات وتارة بمعدودات علمت ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة، فهي (معدودة) أي: قليلة.

و (معلومة) قد عرفت ببيان رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي كلف بالبيان، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:٤٤].

أي: يذكرون الله شاكرين، حامدين، مثنين على الله جل جلاله.

{عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:٢٨] (البهائم) تدخل فيها البهائم المركوبة التي لا يحل أكلها من خيل وبغال وحمير، وإنما جعلت للركوب على خلاف في بعض ذلك.

والإبل تؤكل باتفاق، والخيل بكراهة ومنهم من حرمها، وأما البغال والحمير فقد حرمت.

فال الله: {بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:٢٨] ليعلمنا ويشعرنا ويدعونا إلى أن نذكر الله، ونقدم الهدي ونقدم الذبائح في الحج ونحن نذكر الله، وألا تكون إلا من الأنعام، والأنعام هي: الإبل والبقر والغنم.

ومن المعلوم في الضحايا أن الإبل أفضل ثم البقر ثم الغنم، ويشترك في البعير سواء كان ناقة أو جملاً يشترك فيه سبعة ويكون مجزياً عنهم، وكذلك البقرة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، وقد أوتي للنبي عليه الصلاة والسلام من اليمن بمائة بدنة، أتى بها علي رضي الله عنه، فنحر منها بيده الكريمة عليه الصلاة والسلام ثلاثاً وستين بدنة، وذبح ونحر الباقي علي رضي الله عنه.

فكان يقول عند الذبح: باسم الله، اللهم منك وإليك، عمن لم يهد من أمتي.

وكان يذبح بعض ذلك عن أسرته وعائلته الشريفة.

{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:٢٨] أي: ما رزقهم منها للهدايا وللضحايا وللرزق وللأكل وللاستنفاع سواء في الحج أو في غير الحج، فالله قد خلقها لنا وأحلها لنا حضراً وسفراً، وفي الحج تعتبر هدايا وتطوعاً بالنسبة لمن لم يكن عليه جزاء فدية أو جزاء في شيء أفسد به حجه، أو خالف فيه بعض ما يجب ألا يخالف، أو كان متمتعاً أو قارناً فكذلك عليه ذنب.

قال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:٢٨] أمرنا أن نأكل منها، وقد اختلف العلماء في نوع هذا الأمر هل هو أمر وجوب أم أمر استحباب؟ وقد قال الظاهرية ومن يقول بقولهم: إنه أمر وجوب، وقال به من كان اجتهاده اجتهادهم ممن اعتبروا الأمر باستمرار هو للوجوب ما لم يأت ما يصرفه عن ذلك.

ولكن الجمهور في ذلك فصلوا وقالوا: أما الهدايا وضحايا التطوع فيؤكل منها، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما نحره من الإبل أمر بأن يقتطع من كل بدنة قطعة لحم وطبخ ذلك فأكل من لحمها وشرب واحتسى من مرقها، وتصدق بالباقي؛ لأن الله أمر وقال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:٢٨].

فنحن قد أمرنا أن نأكل من هدايانا وتطوعنا، وأن يأكل معنا منها البائس الفقير.

وقال بعض أهل العلم: تقسم أنصافاً، نصف للمضحي، وللمهدي، وللمتطوع، والنصف الآخر للفقراء والمساكين.

وقال البعض: تقسم أثلاثاً: ثلث لنفسه ولعياله، والثلث لطبقة من الناس الذين لا يطلبون ولا يسألون ولا يتسولون ممن يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، كما سيأتي في تفسير القانع والمعتر، والثلث الآخر لمن يسأل؛ للبائس بالمرة، كما قال تعالى في هذه الآية الكريمة.

وأما الأكل من الهدايا ومن التطوع فقد أجمع الفقهاء على حل ذلك وجوازه، وقالوا: الأكل في الآية هو متعلق ومرتبط بالهدايا والتطوع.

وقالوا: ليس الأمر أمر وجوب، وإنما هو أمر إجازة وإباحة، فإن شئت أن تأكل فكل، وإن لم تشأ فلا تفعل، ولكن هذا مختلف ومخالف للأسوة النبوية؛ فقد أكل صلى الله عليه وسلم شيئاً سمي أكلاً، فهي قطعة لحم من كل ناقة طبخت مع بعضها وأكل منها بعضاً، واحتسى من مرقها، والباقي تصدق به جميعه، وهو أشبه بألا يكون أكل منها إلا لامتثال هذا الأمر في الآية.

وهذا موضع إجماع من الأئمة الأربعة وغيرهم.

وقال مالك: يباح الأكل من التطوع، ولا يباح الأكل من دم القران إذا كان حج مقرناً، ولا حج التمتع، ولا جزاء الصيد، ولا ما ذبح لفساد وقع بالحج؛ لأن هذا الذبح واجب لا يتم الحج إلا به.

والأحناف قالوا: يؤكل من ذبائح التمتع ومن ذبائح القران، ولا يؤكل من ذبائح الجزاء وذبائح فساد الحج إن حدث نقص أو فساد بالمرة.

والشافعية كذلك أباحوا بعض ذلك وحرموا بعض ذلك؛ أباحوا الجزاء ومنعوا من أن يؤكل من ذبيحة التمتع وذبيحة القران.

{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:٢٨] البائس الفقير هو: الفقير الذي اشتد بؤسه وفقره، واشتدت حاجته، فينبغي لمثل هذا في مثل هذه الأيام أن يأكل كما يأكل الناس، وهي أيام عيد، وأعظم موسم في الإسلام، وهو الموسم الأعظم؛ موسم الحج.

والأضحية يؤكل منها، ويعطى منها للفقير الذي لا يطلب فيحسبه الجاهل غنياً من التعفف، والفقير الذي يسأل وقد أضر به الفقر والحاجة.