للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (الله الذي يرسل الرياح)]

قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم:٤٨].

أي: أن الله يرسل الرياح فتثير السحاب، أي: تزيله من مكانه، وتبعثه ليجتمع في السماء.

قال غير واحد من أعلامنا القدامى، وقال المحدثون تقريباً: إن الرياح تثير السحاب من البحار، فعندما تتبخر من البحار تأخذها هذه السحب فتصفيها كالمصفاة من ملحها وأجاجها، وتصعد بها إلى الأجواء العالية فيصفيها الله تعالى فينزلها كما ينزل الحليب من ثدي النوق والبقر والأغنام.

وتنزل الأمطار على شكل قطرات، تسقي الأرض بكل أجزائها، فالأرض الخصبة التي تنبت والتي يصلح الزرع فيها فتأتي من كل زوج بهيج، من أنواع الحبوب والخضر والثمار وغير ذلك، مما يتغذى به الإنس والحيوان والطير.

وهذا السحاب الذي نراه داكناً أحياناً، وأسود حالكاً أحياناً، وأصفر أحياناً يشبه الزرع الأصفر الذي ابتدأ يحترق، أو ييبس، وأعظمه وأكثره غيثاً هو السحاب الأسود الغدق لكثرة الماء فيه، ولثقله بالماء الذي يحمله.

أما إذا كان أصفر فهو الريح العقيم الذي ما أتى على زرع إلا وأيبسه، ولا على أرض إلا وأجدبها حتى ولو كانت ذات فواكه ونبات فإنه ييبس كذلك ويصفر، ولا يأتي الريح العقيم إلا بالهلاك والعذاب، والقحط والجدب.

قال تعالى: {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الروم:٤٨] أي: أن الله جل جلاله يبسط السحاب، ويكون مقدار ذراع، وإذا به يتمدد ويستطيل حتى يكاد يغطي المدينة كلها وأحياناً القطر كله.

وإذا اشتد واسود وعم يرسل الله منه غيثه ورحمته، فيسقي الأرض بعد جدب ويغيثها بالمطر، فيسقي الإنسان وهو أول ما يحتاج إليه الإنسان، ثم يسقي الأرض وما عليها من الدواب والطيور وكل ما خلق.

ولذلك عندما يشتد الجدب والقحط بالناس يستغيث المسلمون ويستسقون الله تعالى، يستحب لهم أن يخرجوا جميعاً نسائهم ورجالهم وأطفالهم، حفاة كاشفي الرءوس وبألبسة مقلوبة، ويخرج معهم أهل الذمة، ويخرجون دوابهم وحيواناتهم، فالكل في حاجة إلى رحمة الله، وغيث الله، وبركات الله.

فتجد الجمال والغنم والبقر وغير ذلك تصيح، كل يدعو بلغته، والإنس كذلك مؤمنهم وكافرهم، ولا يستغني عن رحمة الله مخلوق، فالكل في حاجة لذلك، فإذا جاء الجدب والقحط جاء البلاء والعذاب وعم كل الخلق.

وقوله تعالى: {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الروم:٤٨] أي: يمدده ويطيله ويكثره حتى يعم الإقليم كله.

وقوله تعالى: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} [الروم:٤٨].

كسفاً: جمع كسفة، أي: قطعاً، قطعة هنا وقطعة هناك، يسقي البساتين والفيافي والغابات، فما لم يستفد من على سطح الأرض يستفيد منه الماء في جوفها، لتكثر مياه الآبار وتجري الأنهار وتزداد بعد أن كادت تيبس.

وكثيراً ما حصل ذلك فجفت الآبار، ونشفت المياه في الأنهار، فإذا وصل الحال لذلك اشتد العذاب بالناس فهو الموت، إلا أن يغيثهم.

وقد زرنا أقطاراً مضت عليها سنون عديدة لم تسق قط، فوجدنا الدواب ميتة، والبحار قد جفت، والأنهار قد وقفت، والأشجار قد يبست، والناس إلى الموت أقرب.

والماء الذي يشربونه لا يكادون يجدونه، ثم أتى الله بالغيث بعد ذلك، فعوضاً عن أن يشكروا الله على نعمه كفروا وارتدوا ووقع فيهم انقلابي ماركسي، شيوعي، إلحادي.

وطردوا اللغة العربية والمدارس الإسلامية من البلاد، وذهبوا لعبادة هؤلاء الأشخاص القذرين الوسخين، واتخذوهم أرباباً من دون الله.

ومن عجيب أمر الله في عباده، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من استعان بظالم سلط عليه).

وإذا بهؤلاء الذين دانوا بدينهم، وارتدوا بردتهم، وكفروا بكفرهم سلطهم الله عليهم، فضربوهم من السماء بأنواع العذاب من طائرات وصواريخ، وبدبابات وبأسلحة فتاكة مدمرة من الأرض، وهم يستغيثون منذ دهر فلا يغاثون؛ لأن الله لم يغثهم، لأنهم كفروا بأنعمه وأبوا إلا الجحود والعصيان والردة، مع أن الله وحده الذي أغاثهم، ولن يستطيع مخلوق إذا أجدبت الأرض أن يأتي بالماء من السماء.

وقوله تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الروم:٤٨] أي: ترى المطر يخرج من وسطه وأثنائه، وأركانه، ومن نواحيه كلها، وكأنه ثدي الناقة أو ثدي الأم ينزل قطرة قطرة بما يكفي الوليد وما يعيشه بهذا الحليب.

ولو نزل المطر على غير شكل قطرات لخرب الأرض، ولقلع الأشجار، ولكنه ينزل خفيفاً قطرة قطرة فيأخذ كل عرق وكل جذر وكل نبتة وكل شجرة كانت كبيرة أو صغيرة حاجتها من الري، وحاجتها من الغيث، فيسقي الله ويغيث العباد بذلك.

وقوله تعالى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم:٤٨].

فمن عجيب صنع الله أن تجد أرضاً قد أحاط المطر بجوانبها الست ولم ينزل عليها المطر، فإذا بحثت عن سبب ذلك وجدت صاحب تلك الأرض أو تلك المزرعة لا ينفق من ماله، ولا يؤدي حق الله فيها، وإذا بالله الكريم قد جعل لما عمله من سنوات هباءً منثوراً، وجعل عمله كأن لم يكن.

فإذا أصاب الله بهذا المطر الذي ينزله من السحب من شاء من عباده، إذا بهم يفاجئون برحمة الله وغيثه فيستبشرون ويفرحون ويسرون.

وبعض هؤلاء الذين فرحوا واستبشروا يؤدون شكر ذلك من نفقات وزكوات، والبعض الآخر اتخذوا فرح ذلك بطراً وتيهاً وخيلاء وطغياناً في ما ملكوا وما زرعوا، فهؤلاء لا تفرح لهم، ويوشك أن يأتيهم الله بعذاب من عنده.

قال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم:٤٩].

أي: وإن كان هؤلاء الذين أمطروا وأغيثوا من قبل أن ينزل عليهم هذا المطر كانوا من قبله آيسين، قانطين، متألمين، باكين أو كالباكين، ما صرفوه في الأرض من عمل ومن زمن لم يأت بشيء، بل كل ما زرعوه وما حرثوه ضاع زيادة على الجدب والقحط في أصله.

فإذا جاء هذا الغيث فجأة وأصابهم الله برحمته إذا بهم يفاجئون بالرحمة ويسرون بما أصابهم، إذ جاءهم على قدر من غير انتظار، وإن كانوا من قبل ذلك لآيسين قانطين من الرحمة.

و (قبل) في الآية كررت مرتين وذلك للتأكيد.

وقراءة ابن عباس بقبل الأولى فقط: (وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم لمبلسين) إنما كررت الثانية: {مِنْ قَبْلِهِ} [الروم:٤٩] تأكيداً لقنوطهم الأول وما كانوا عليه من أحزان، وإذا بهم يفاجئون بالاستبشار والفرح بنزول المطر، فذكرت قبل مرتين لتأتي بالاستبشار وتأتي باليأس قبل ذلك.