للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفهيم سليمان الحكم]

قال الله عزت قدرته: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:٧٩].

لا نزال مع عباد الله المكرمين، وأنبيائه المرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولا نزال مع داود وولده سليمان وهما يحكمان في قضية حرث وزرع قد نفشت فيه غنم القوم، قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء:٧٨].

يقول الله: يا محمد! واذكر داود وسليمان النبيين الكريمين إذ يحكمان في الحرث.

إذ نفشت فيه غنم القوم، والنفش: الرعي ليلاً، وقد قلنا بأن قوماً أطلقوا سبيل أغنامهم ليلاً بلا حارس ولا راع، فدخلت في مزارع أقوام، فأتت عليها وجعلتها أرضاً كأنها لم تزرع، وإذا بالقوم يأتون إلى نبي الله داود، فقالوا: يا نبي الله! إن هؤلاء قد أطلقوا أغنامهم ليلاً دون حراسة ولا رعاية، فدخلت الغنم على مزارعنا، فأتت عليها رعياً، ولم تبق منها ولا تذر، فاحكم بيننا بما علمك الله.

وإذا بداود يحكم أن الأغنام تنزع ممن أطلقها من أصحابها دون رعاية ولا حراسة، ويملكها من دخلت مزرعته، ورعت أرضه، وخربت غرسه وزراعته.

وإذا بهؤلاء المترافعين المتحاكمين يخرجون من محكمة داود، وإذا بسليمان -وهو لا يزال صبياً لم يتجاوز بعد السنة الحادية عشرة- يقول لهم: بماذا حكم عليكم نبي الله داود؟ فقصوا عليه الخبر، أنه حكم بأن تملك الأغنام لمن ذهبت مزرعته، فيقول سليمان: كان أرفق بهم أن يحكم لهم بغير هذا، ثم حكم بأن الغنم يأخذها صاحب المزرعة فيعتني بها ويرعاها ويكسب لبنها، ونسلها، وصوفها، ويسلم للغرماء الأرض التي أهلكتها أغنامهم فيزرعونها إلى أن تتم تلك المزرعة مثلما كانت من قبل، وتستصلح كما كانت قبل أن تفسدها الأغنام، وعند ذلك تعود الغنم لأصحابها، وتعود المزرعة لأصحابها، وإذا بداود يبلغه الخبر فيقول: نعم ما حكمت! ورجع عن حكمه، وحكم بينهم بذلك.

قال الله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء:٧٨] كان الله عالماً وهما يصدران الحكم على أصحاب الأغنام لمصلحة صاحب المزرعة، ولكن الله جل جلاله أثنى على حكم سليمان، وما عاب حكم داود فقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:٧٩] فهم القضية فحكم بالصواب، وحكم بالحق الصراح، وعاد أبوه داود إلى الحكم الذي حكم وارتأى، فذلك معنى قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:٧٩].