للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث)]

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:٣٤].

هذه الخمس هي مفاتيح الغيب التي لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وإنما هي مما انفرد الله بعلمه فلا يعلمها إلا من يعلمه، وقد أعلم بعضها، فهو عالم الغيب لا يطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول، فقد ارتضى محمداً صلى الله عليه وسلم، فأعلمه كثيراً مما قد أخبرنا عليه الصلاة والسلام بما يكون في غده؛ كما أخبر بالفتن الحادثة بعده؛ فأخبر باستشهاد عمر، وعثمان وعلي وباستشهاد الحسين عليهم رضوان الله جميعاً.

وأخبر بالفتن الحادثة إلى قيام الساعة، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام خطب يوماً عقب صلاة الصبح إلى صلاة الظهر فنزل فصلى، ثم صعد المنبر وخطب إلى أذان العصر، فنزل فصلى، ثم عاد فصعد المنبر وبقي إلى أذان المغرب، فقال في خطبته كل ما كان وما يكون إلى قيام الساعة، يقول حذيفة: علمه من علمه ونسيه من نسيه، حتى إنه أخبرنا بالطائر يطير في السماء، حتى إنه أخبرنا بكل قائد فتنة متى يكون وما اسمه وما اسم أبيه، وفي أي عصر سيكون ومن معه.

والنبي عليه الصلاة والسلام كذلك أخبرنا بأن موته في المدينة وأنه سيدفن حيث يموت، وذلك عندما أعطى الأموال المؤلفة قلوبهم بعد غزوة حنين، وكان في نفس الأنصار شيء من ذلك، وقالوا: (لا تزال سيوفنا تقطر من دماء هؤلاء وهو يعطيهم ويدعنا، فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فجمعهم في مكان وحدهم وقال لهم: ما كلام بلغني عنكم؟ ثم قال لهم: ألا ترضون أن يعود هؤلاء بالشاء والبعير وتعودون بمحمد صلى الله عليه وسلم في رحالكم، المحيا محياكم والممات مماتكم، ولو لم أكن من قريش لكنت امرأً من الأنصار)، فهو قد أخبر عليه الصلاة والسلام أن بقية حياته سيقضيها في المدينة، وأن موته سيكون في المدينة صلى الله عليه وعلى آله، وكذلك كان.

وقبل أن يموت قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، فكانت الروضة هي قبره عليه الصلاة والسلام، فهو قد أخبر وحدد المكان الذي سيدفن فيه، وأنه بين منبره وبيته، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (القبر إما حفرة من حفر النار، وإما روضة من رياض الجنة)، ولا يزالون في المغرب اليوم يسمون المقبرة الروضة؛ تفاؤلاً أن تكون روضة وجنة على المسلمين.

قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ))، وأما علم الساعة فلم يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، مما يدل على أنه لا يعلمه، وفي حديث عمر عندما جاءه جبريل فسأله عن الإيمان فأجابه، وسأله عن الإسلام فأجابه، وسأله عن الإحسان فأجابه، وسأله عن الساعة فقال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي: لست بأعلم بها منك، وسأله عن أشراطها، فذكرها، فهذا يدل على أن الله تعالى استأثر بعلمها، ولم يخبر بها ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً.

قال تعالى: ((وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ)) لا يعلم أحد متى ينزل الغيث ومتى ينزل المطر الذي يغيث العباد، فهو سبحانه الذي يرسل الغيث رحمة بعباده، يغيثهم من محنتهم وجوعهم وعطشهم، أما متى سيكون ذلك، ومتى سينزل فلا يعلم ذلك إلا الله جل جلاله.

قال تعالى: ((وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ)) أي: لا يعلم ذلك إلا الله، والملك المكلف عندما يأمره الله بنفخ الروح في الجنين يقول لربه: أشقي أم سعيد؟ أذكر أم أنثى؟ فهو عند ذلك يعلمه ربه بما أمره به.

قال تعالى: ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا)) أي: لا يعلم أحد عن الغد ماذا سيكون فيه من خير أو شر، حياة أو موت، فالغد غيب استأثر الله بعلمه جل جلاله.

قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فالإنسان لا يعلم متى يموت، ولا في أي أرض يموت، لا يعلم الإنسان هل سيموت حال الشباب أو حال الشيخوخة؟ انفرد الله بذلك، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح والسنن: (إذا قدر الله للإنسان موتاً في أرض جعل له إليها حاجة)، وإذا به تجده ينتقل لتلك الأرض لتكون وفاته فيها.

ويحكى عن أحد الصالحين من بني إسرائيل، أنه أدرك ملك الموت ورآه بعينه الباصرة ورآه ينظر إليه شزراً، وإذا به يأتي لأحد أنبياء بني إسرائيل وكان هذا في المشرق فقال له: يا نبي الله! رأيت ملك الموت ينظر إلي وكأنه يريدني، فادع الله أن يحملني إلى الهند، وفي لحظات كان في الهند، فجاءه ملك الموت إلى الهند وقال: عجيب أمرك، أمرت بموتك وأخذ روحك في الهند، فقلت في نفسي: ما الذي سيأتي بك إلى الهند لآخذ روحك كما أمرني ربي وأنت هناك.

قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:٣٤]، وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن والمسانيد عن جابر بن عبد الله، وعن أبي هريرة، وعن عبد الله بن عباس، وعن عبد الله بن مسعود، وعن بريدة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مفاتيح الغيب خمس لا يعملها إلا هو، ثم تلا هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:٣٤])، فهذه الخمس لا يعلمها مع الله ملك مقرب ولا نبي مرسل، والآية لا تدل على الحصر.

ولا تزال عادة المنجمين والكهنة في ادعاء معرفة الغيب والاطلاع عليه جارية، ويتخذون حركات يزعمون أنهم يعلمون بها الغيب، فيقولون: سيكون غداً كذا ويكون بعد غد كذا، وقد ينظرون في خطوط الكف، وقد ينظرون في الرمل، وقد ينظرون في النجوم، وكل ذلك كهانة ورجم بالغيب وكذب على الله، فلا علم لأحد بما في الغد، ولا علم لأحد بما في الغيب، والله وحده عالم الغيب والشهادة، ولكن الله جل جلاله إذا أراد إطلاع نبيه على غيبه أطلعه، فهو عالم الغيب لا يطلع على غيبه أحداً، إلا من ارتضى من رسول، وقد أطلع أنبياءه، وأطلع إمامهم وخاتمهم صلى الله عليه وسلم على الكثير من الغيوب مما أخبر به ودون في كتب الصحاح، وكتب السنن، وكتب المسانيد، وسائر كتب السنة التي دونت ما أخبر به عليه الصلاة والسلام مما كان ويكون إلى قيام الساعة.

وقد خطب النبي عليه الصلاة والسلام مرة من طلوع الفجر إلى أذان المغرب لم يقطع خطبته إلا بصلاة الظهر وصلاة العصر، فحدث بما كان وما سيكون، روى ذلك عنه عمر، ورواه حذيفة، ورواه ابن عمر، ورواه الجم الغفير من الصحابة رضوان الله عليهم، والأحاديث في ذلك تواترت واستفاضت وأيد بعضها بعضاً حتى أصبح ذلك علماً يقينياً، فتلك الغيوب هي من الله أطلع عليها عبده، وإلا فليس أحد من الخلق يعلم شيئاً من الغيب، ولكنه الغيب الذي يطلع الله عليه من شاء من ملائكته ورسله وأنبيائه ومن تبعهم من صالحين وعلماء.

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:٣٤]، فالله هو العليم بكل شيء، الذي يعلم دبيب النملة السوداء في الصخرة الصماء في الليلة الظلماء حيث لا قمر ولا نجوم، يعلم ما كان ويكون، وكل كائن هو خلقه وهو أمره، يعلم ما خلق وهو اللطيف الخبير.

فالله خبير بما يصلح عباده، وعليم بما يصلح خلقه، وبما ينبغي أن يجازى به المحسن ويجازى به المسيء، فمن آمن بالله إلى أن لقي ربه مؤمناً فله الرضا والجنة، ومن بقي جاحداً كافراً بالله فعليه اللعنة وغضب الله، فإذا تاب تاب الله عليه، والإسلام يجب ما قبله.

وبهذا نكون قد ختمنا سورة لقمان، ولله الحمد والمنة!