للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى)]

قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت:١٧].

قصة عاد وثمود هنا هما شرح وبيان لمجمل الآية -الديباجة- التي ذُكرت في أول قصص هؤلاء، عندما قال ربنا: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:١٣] وقد قص الله علينا قصة عاد في الآية السابقة.

وأما ثمود فيقول عنها: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:١٧]، أي: هديناهم ودعوناهم للهداية وأرسلنا لهم نبيهم صالحاً عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله صباحاً ومساء، وأنذرهم وتوعدهم أنهم إذا بقوا على شركهم سيصيبهم مثل ما أصاب قوم عاد قبلهم.

وقد طلبوا منه معجزة عجيبة غريبة ومع ذلك استجاب الله لهم، فما زادهم ذلك إلا كفراً وخزياً وإصراراً على الشرك، فقد جاءوا إلى صخرة وقالوا: لن نؤمن بك يا صالح! ما لم تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة طولها كذا وعرضها كذا وكذا وهي عشار أي: حامل في شهرها العاشر، وإذا أنت لم تفعل لا نصدّقك.

فقال: يا قوم! إذا جاءت المعجزة والآية وكفرتم بها حل عليكم عذاب الله سريعاً، قالوا: لن نؤمن إلا بذاك، فقال: أرجئوني أياماً، فدعا الله فاستجاب له، وبعد أن قال لهم: إنهم إذا جاءتهم هذه الآية كما طلبوها وأعرضوا عن الإيمان وأصروا على الكفر فسيكون ذلك سبب القضاء عليهم جاءت الناقة فلم يؤمنوا كذلك.

وقد كان هود عليه السلام في جزيرة العرب، وكذلك كان صالح عليه السلام في جزيرة العرب في الحجر بين الحجاز والشام الأردن، ولما كانت المياه شحيحة والأرض حارة وصحراوية وكانت الناقة تحتاج إلى الماء الكثير ولم يكن لهم إلا عين ماء يشربون منها رتب صالح لهم يوماً لشرب الناقة ويوماً لشربهم؛ لأنها تشرب ما يشربون جميعهم، فأخذوا يعطشونها ويجيعونها، وولدت بعد شهر من خلقها.

ثم إذا بتسعة رهط مفسدين يذهبون ويقتلون فصيلها فأخذت تصيح وتجأر بصوت يزلزل الأرض، فقلتوها بعد يوم أو يومين، فجمع صالح القوم وقال لهم: انتظروا بلاء ودماراً وخراباً بعد ثلاثة أيام، وهكذا كان، ففي اليوم الأول اسودت وجوههم، وفي اليوم الثاني أخذت أجسامهم وعروقهم تضعف ولا يكادون يستطيعون حركة، وفي اليوم الثالث أرسل الله عليهم زلزلة وصيحة، حيث صاح بهم جبريل ومن معه من الملائكة صيحة أخرجت قلوبهم من صدورهم وعيونهم من مآقيها وأمخاخهم من رءوسهم، وصرعوا فأصبحوا جاثمين كأن لم يغنوا فيها.

وهكذا عاقب الله ثمود بالصيحة والزلزلة بما أهلكهم وقضى عليهم.

قوله تعالى: ((وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) أي: أرسلنا لهم هادياً نبياً يدعوهم إلى الهداية وإلى الإيمان والإسلام.

((فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) أي: ففضّلوا الضلال وعمى القلوب والظلام على النور، وأحبوا العمى والكفر والجهالة والظلمات والضلالة على النور وعلى الهدى.

قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} [فصلت:١٧]، أي: ما كادوا يفعلون ذلك ويقتلون الناقة ويتجرءون على نبيهم ويزدادون كفراً بربهم، حتى أخذهم عزيز مقتدر، فأتتهم صاعقة ومصيبة أرسل بها جبريل، فزلزلت أرضهم وأصمت آذانهم وأخرجت عيونهم وقلوبهم وفجّرت أمخاخهم، فانتهوا وكأنهم لم يغنوا بالأمس، فأصبحوا كأعجاز نخل خاوية، وكأنهم لم يكونوا ولم يوجدوا يوماً.

والنبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح عندما ذهب إلى غزوة تبوك وجد قوماً دخلوا إلى أرض صالح وفيها آثارهم وآبارهم وما هم فيه من بلاء، ووجدهم قد أخذوا من هذا الماء فطبخوا به وخبزوا، فأمرهم صلى الله عليه وسلم بإلقاء تلك الأطعمة التي طبخوها من مياه بئر قوم صالح وبإلقاء ذلك العجين لرواحلهم ولنوقهم وقال لهم: (إذا مررتم بأرض عذاب فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا)، أي: كي لا يقع بهم ما وقع بمن سبقهم ولا يبتلوا ببلائهم وبمصيبتهم.

وقد ضرب الله هذا مثلاً لكفار هذا العصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم إن أعرضوا عن ربهم وعن طاعة نبيهم صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم فإن الله سيدمرهم وينزل عليهم الصواعق والبلاء والمصائب، وقد فعل ولا يزال يفعل، وما تسليط النصارى ثم اليهود ثم المنافقين على الشعوب الإسلامية إلا عذاب وعقوبة لتركنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك الإسلام الذي بذل سلفنا الصالح في سبيل قيامه وإعزازه ونشره أرواحهم رخيصة في سبيل الله، فجئنا نحن فاستهزأنا بكل ذلك ونبذناه وأصبح كتاب الله وراءنا ظهرياً.

{فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت:١٧]، أي: أخذتهم الصاعقة والمصيبة والبلاء المدمر.

وعذاب الهون: عذاب الهوان، وهو العذاب المؤلم للأجساد المهين للأرواح المذل للأنفس؛ بسبب ما كانوا يكسبون ويرتكبون من كفر بالله وشرك به وتكذيب لرسله وإعراض عن كتابه.