للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون)]

{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المؤمنون:٧٩].

(ذرأكم) أي: خلقكم، فهو الذي خلقنا على الأرض، وملكنا إياها ومنافعها، فنأكل من ثمراتها ومن حيواناتها، ونشرب من مياهها، ونعيش في أجوائها صيفاً وشتاءً وربيعاً وخريفاً، وجعلنا خلفاءه في الأرض، فقال ربنا للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:٣٠]، فجعلنا خلفاء لنحكم بالعدل، وندعو لعبادة الله، ونقاوم الشرك، ونقضي على الظلم، فإذا قام الإنسان بهذه المعاني كان خليفة حقاً، وقد قام بما خلفه الله عليه، فإذا لم يقم كان مشاكساً، وكان مخالفاً، وكان عبداً عاقاً، فيعاقب بما يعاقب به العققة والمخالفين لأمر الله من المشركين والعصاة.

{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون:٧٩] أي: خلقنا في الأرض ولم يخلقنا في السماء، وجعل لنا كل ما عليها بحاراً وجبالاً وأشجاراً، رجالاً ونساءً، أطفالاً وخدماً، وجعل الكل مسخراً يخدم بعضهم بعضاً، وكلنا فقراء إليه، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:١٥]، فمهما استغنى الرجل منا، ومهما ملك الرجل منا فهو يحتاج لمن يخبز له، ولمن يبني له، ولمن يطبخ له، ولمن يخيط له، ولمن يعالجه إذا مرض ولمن ولمن، وهكذا سخر بعضنا لبعض، وخدم بعضنا بعضاً، والغني المطلق الذي لا يحتاج إلى مؤازرة ولا مشاركة هو الله جل جلاله، ربنا وإلهنا وخالقنا عز وجل وتعالى مقامه.

{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المؤمنون:٧٩]، فقد خلقنا مدة وزمناً معيناً له بداية وله نهاية، وأوجدنا من العدم، ثم سيميتنا، ثم سيحينا مرة ثانية، ويحشرنا إليه ونقف بين يديه لنحاسب على حياتنا وما صنعنا فيها: هل صدقنا رسلنا؟ وهل آمنا بربنا؟ وهل أطعناهم فيما أمرونا به وتركنا ما نهونا عنه؟ وهنا ذكر الحشر إنذاراً وتهديداً بأنه قد ذرأنا في الأرض ولم يتركنا عبثاً، ولم يخلقنا للعب والهوى، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦]، فهل هذه العبادة التي خلقنا الله لها ومن أجلها قد قمنا بها حق القيام أو بعض القيام؟ وهل استغفرنا الله على النقص وعملنا جهدنا في بعض، عسى الله أن يغفر ذنوبنا؟ وأعظم شيء أن يعيش الإنسان موحداً وأن يموت موحداً، فيعبد الله ولا يشرك به أحداً، ويصدق رسله، ويصدق كتبه فمهما كان فهو إلى مغفرة في النهاية، إما بعد أدب وعذاب في النار، وقد يغفر ذلك بلا عذاب ولا نار، والله تعالى لا يسأل عما يفعل.