للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم)]

قال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:٤]، أي: القرآن الكريم قبل أن ينزله الله على نبيه كان مكتوباً في اللوح المحفوظ.

وأم الكتاب أصل الكتاب، وأصل الكتابة اللوح المحفوظ، فقد أمر الله ملائكته أن يكتبوا فيه ما كان وما يكون إلى قيام الساعة، وإلى ما بعدها، إلى أن يدخل الجنة من يدخلها، ويدخل النار من يدخلها، وكتب فيه كتاب الله كما نزل به جبريل الروح الأمين عليه السلام على قلب نبينا صلوات الله وسلامه وزكواته عليه وعلى آله وأصحابه.

بمعنى: أن الله كتبه في اللوح المحفوظ قبل خلق الخلق بألفي عام، والقرآن الكريم الذي نتلوه من السطور ونحفظه في الصدور، الموجود في المصاحف ونتعبد به الله مصلين ومتهجدين وتالين ودارسين ومتفهمين، وعالمين ومتعلمين، وهو ما نطق به صلى الله عليه وسلم، وما أوحى إليه به جبريل، وما كتب في اللوح المحفوظ، لم تغير فيه كلمة ولا حرف ولا آية ولا سورة لا بزيادة ولا نقصان، بل ولا بحركة من الحركات، سواء كانت ضمة أو فتحة أو كسرة أو سكوناً، أو كانت مدة بألف أو واو أو ياء.

فالله قد حفظه قبل إنزاله على نبينا، ثم حفظه بعد ذلك متعهداً فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩]، فالقرآن محفوظ بحفظ الله جل جلاله وعز مقامه، ومهما كثر أعداء الإسلام والقرآن فإنهم عاجزون عن تغييره أو تبديله، وأعظم شيء بعد القرآن علم التجويد، وهو العلم الذي انفرد به القرآن الكريم، وقد عرفت نصرانياً في أرض الشام كان له شأن في الكفر، ووصل إلى رئاسة الوزارة، كان يتعلم القرآن على مجود، فقال له أحد المسلمين: أنت لا تؤمن به على أنه كلام لله ولا أنه وحي من الله، فلم التجويد؟ قال: لأن لغة العرب محفوظة بوجود القرآن بيننا بأن علمنا حركاتها وسكناتها ومدودها وقلقلة حروفها وظاءها وذالها وطاءها وزايها، فبقيت الحروف بحركات مقدرة بلا زيادة ولا نقصان، وهذا لا يعرف في لغة من لغات الأرض، فاللغة اللاتينية التي هي أصل لغات الأوربيين تفرع منها بقية اللغات حتى أصبحت كل لغة وكأنها لغة بذاتها وليست فرعاً للغة اللاتينية لتغير حروفها وحركاتها بطول الزمن وتحريف الصحف لها.

واللغة العربية الفصحى مع تغير الزمن، تفرع منها اللهجات العربية فأصبحت كل لهجة من هذه اللهجات لغة قائمة بنفسها، وقد حاول اليهود والنصارى أن يجعلوا للهجات الشعبية العامية نحواً ولغة ومؤلفات وكتباً ليتعلموها ويعلموها، ويبتعدوا عن لغة القرآن وهدي القرآن فعجزوا وما استطاعوا؛ لأن الله تعهد بحفظ القرآن، ومن حفظه للقرآن حفظ الناس له، ومن حفظ الناس له أن يحفظوا اللغة العربية فيتكلمون بها، كما يتكلم الناس لغتهم الدارجة وكما يفعل ذلك كل من تكلم وتمرن على الخطابة والكلام والكتابة والدراسة والتدريس بلغة القرآن، قال الشاعر: والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم فمن عود لسانه اللغة الفصحى أصبح بها عربياً أصيلاً، ومن عود لسانه لغة اللحن واللهجة المنحرفة ضاع عليه فهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم باللغة الفصحى.

وأم الكتاب هو عند الله كتابان: كتاب من قبل الله لا يراه أحد؛ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.

وكتاب من قبل الملائكة، يتلقون منه الأوامر والنواهي، لينفذوها سماء وأرضاً في الحياة وفي الممات وفي الآخرة، فما كان قبل خلق الناس يصفه الله حيث يقول: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:٣٩]، فهو الذي وصفه: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق:٢٩]، فما كان عند الله من كتاب الله ومن سنة رسول الله لا يغيران، فمثلاً: أوحي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء على أن يصلي هو وقومه خمسين صلاة في اليوم والليلة، وقد نطق بهذا اللوح المحفوظ الذي يزيد وينقص، وبعد متابعة واجتماع وتردد بين محمد صلى الله عليه وعلى آله وبين ربه وموسى عليه السلام، أصبحت خمساً، فقال الله: (هي خمس في العمل وخمسون في الأجر لا يبدل القول لدي) فمحيت الخمسون التي كانت في اللوح الذي هو من جهة الملائكة، وبقيت الخمس المحدثة في الكتاب الذي من قبله، الذي لا يقبل التغيير ولا التبديل.

وقوله: ((وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)) أي: عالي الرتبة والمقام، فهو جليل الأصل، وجليل الكلم، وجليل الحكم وجليل المنزل عليه، وحكيم يضع الأمور في منازلها ومواضعها، جاء بالحكمة وبالحكم، وجاء بالعزة وبالرفعة، وجاء بالصلاح للخلق في الدنيا والآخرة.

فالقرآن الكريم هو عند الله في أم الكتاب، وهو لدى ملائكته وجنده الذين لا يحصي عددهم إلا الله، وهو عنده عليُّ الشأن رفيع المقام، حكيم في أحكامه، حكيم في آدابه، حكيم في قصصه ونوازله، وما كان كذلك يجب أن يعتبره المسلم كذلك، فيجب أن يكون عندنا عظيم الشأن رفيع المقام معززاً مكرماً.

وقد قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:٧٧ - ٧٩]، ولأجل هذه الآيات حرم الفقهاء مس المصحف لغير متوضئ، ولو أن المطهرين هم الملائكة، ولكن الملائكة مطهرون لأنهم لا يرفثون ولا يتبولون ولا يتغوطون، فهم في طهارة دائمة، أي: فكذلك أنتم أيها البشر لا يليق بكم أن تمسوا كتاب الله وأنتم على غير طهارة.

وقد رخص بعض فقهائنا وعلمائنا للمعلمين وللمتعلمين مس القرآن على غير وضوء لما في ذلك من المشقة؛ لأن الله ما جعل في الدين من حرج، ورخصوا بأن يمسك من المصحف بعضه لا المصحف كله، فليس من الضروري أن يتعلم التلميذ كتاب الله ضمن مصحف، بل يكون لديه جزء واحد أو حزب واحد، وهنا يرخص له أن يمسكه من غير وضوء، أما المصحف فلا حاجة إليه، فهو يحفظ في اليوم ربعاً أو ثمناً ولا يحفظ القرآن إلا بعد سنوات، ومثل ذلك المعلم، فليس من الضروري أن يمسك المصحف كله، بل يكفي أن يمسك جزءاً أو ربعاً أو نحو ذلك.