للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التفريق بين حد الزاني البكر والزاني الثيب]

أنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المكلف بالبيان، فكان بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم التفريق في حدود الزنا بين البكر والثيب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم).

وكان هذا إجماعاً لم يختلف عليه أحد من الصحابة، فكان إجماعاً صحابياً حقيقياً، وأولى الإجماعات بالصحة والعمل إجماع الصحابة، وحدث بعد ذلك خلاف لا يعتبر؛ لأنه خروج على إجماع الصحابة، وإلغاء للنصوص المتواترة المفروضة الواجبة، فقال بعض الخوارج وبعض المعتزلة: ليس في كتاب الله في حد الزناة إلا مائة جلدة، فلا تغريب ولا رجم، والمحصن وغير المحصن سواء.

وقد خطب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يوماً على المنبر فقال رضي الله عنه: (يوشك أن يزعم زاعم وأن يقول قائل: ليس الرجم في كتاب الله، وقد نزلت آية فيه قرأتها وقرأها الناس، ولولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لألحقتها بالمصحف، ثم قال: وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم أبو بكر).

فأما النبي صلى الله عليه وسلم فلا يخالفه إلا كافر، وأما أبو بكر فلم يخالفه أحد، ولم يعترض على فعله أحد، فكان أيضاً أجماعاً صحابياً، ثم قال عمر: لم تنته الدنيا حتى يكذب الناس بالرجم، وبعذاب القبر، وبالشفاعة، وبكون الإنسان يخرج من الجحيم بعد أن يمتحن، وبعد أن تكون أعضاؤه فحمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: الرجم حق، وعذاب القبر حق، وسؤال القبر حق، والشفاعة حق، وبكل ذلك شهد عمر وشهد معه عبد الرحمن بن عوف وفلان وفلان من الصحابة.

وعن زيد بن ثابت العالم بكتاب الله، قال: لقد قرأنا زمناً في القرآن الكريم آية هي من سورة الأحزاب: الشيخ والشيخة إذا زنيا فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، وارجموهما البتة.

والقراءة الشهيرة: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، وهو حديث مالك في الموطأ.

وقوله: (الشيخ والشيخة) أي: المحصن والمحصنة.

ومن المعلوم من الدين بالضرورة عند علماء القرآن والسنة أن آيات القرآن ثلاثة أنواع: آية نسخت ورفعت حكماً كما رفعت تلاوة ووجوداً.

وآية نسخ عملها وبقي لفظها، وآية نسخ لفظها وبقي حكمها، ومنها الشيخ والشيخة، وقد قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:١٠٦].

وقد رجم صلى الله عليه وسلم في حياته رجالاً ونساءً، فرجم من النساء الغامدية، والجهنية، والسيدة التي زنت بعسيفها وأجيرها، واليهودية واليهودي اللذين جاءا يحتكمان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجمهما معاً صلى الله عليه وسلم.

وماعز بن مالك الأسلمي رجمه صلى الله عليه وسلم حتى الموت، ورجم أبو بكر، ورجم عمر ورجم عثمان وجلد علي شراحة يوم الخميس مائة جلدة، ورجمها يوم الجمعة، فقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله.

ولكن جمهور الفقهاء اعتبروا كقاعدة أصولية أنه إذا اجتمعت عقوبتان يعاقب بأشدهما، ويكتفى بها، فإذا اجتمعت عقوبتان: الرجم والجلد، فالرجم أشد من الجلد، فيكتفي بالرجم عن الجلد، وجاء أعرابيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنا بزوجته، وكنت قد فديت ولدي منه بمائة شاة وجارية، فاحكم بيننا بكتاب الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (لأحكمن بينكما بكتاب الله، أما الشياه والوليدة فهي عليك رد، وأما ولدك فعليه مائة جلدة وتغريب عام، وقم يا أنيس إلى زوجة هذا فإن اعترفت فارجمها.

فاعترفت فرجمت).

وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله جعل للزناة سبيلاً: الثيب بالثيب مائة جلدة الرجم، والبكر بالبكر مائة جلدة وتغريب عام).

وهذا متواتر عن جماهير الصحابة، وهذا ما قاله وأفتى به الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي وأحمد، وأنه لابد مع المائة جلدة من أن ينفى ويغرب عاماً.

وقال الحنفية: التغريب بيد الحاكم إن شاء غرب وإن شاء ترك، واعتبروا ذلك تعزيراً زائداً، وقالوا عن التغريب: هو سجن لا يترك في البلدة قريباً، هكذا فهم أبو حنيفة وأصحابه، وعلى هذا فالآية بقيت غير منسوخ فيها حكم الأبكار، والتغريب أبانه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرجم كان يتلى قرآناً.

لكن عندما نسخت ورفع نصها لم تبق آية معتبرة، فلا تتلى، ولا يصلى بها، ولا يعتبر القراءة بها كالقراءة بالقرآن على كل حرف عشر حسنات.