للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إننا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)]

ثم قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:٥١].

يخبرنا ربنا جل جلاله بأنه ينصر رسله والمؤمنين من أتباعهم في الدار الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، أي: يوم يقوم الملائكة يشهدون على كل حي بالخير والشر، فهم يشهدون على الرسل بالتبليغ، ويشهدون على الكفار بالتكذيب، فقوله: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:٥١] أي: يوم القيامة يوم يقف الملائكة صفاً يشهدون على الرسل بأنهم بلغوا رسالات ربهم، ويشهدون على المؤمنين أنهم آمنوا برسالات ربهم، وعلى الكافرين أنهم كذبوا برسالات ربهم.

وقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:٥١] يعد الله جل جلاله الرسل بأنه ناصرهم في الدنيا وفي الآخرة، فكيف هذا النصر في الدنيا؟ قد علمنا أن بعض الأنبياء قتلهم اليهود، فقتلوا زكريا، وقتلوا يحيى، وقتلوا غيرهما، كما ذكر الله، فحاولوا قتل عيسى، وأخرج إبراهيم من أرضه، وأخرج محمد صلى الله عليه وسلم من أرضه، وهناك شعوب مسلمة، وعلماء صالحون، ودعاة إلى الله قد قتلوا، أو شردوا أو سجنوا أو عذبوا، فكيف هذا النصر؟ الجواب عن ذلك: أن النصر إما أن يكون نصراً في الحياة ونصراً بمحق الأعداء، وإما أن يكون بالانتقام من هؤلاء الأعداء، فيكونون من قتلوا من الأنبياء والمؤمنين قد حازوا الشهادة، وذهبوا إلى أرفع الدرجات، وكذلك من عذب فلهم درجات عاليه على قدر بلائهم، ولكن هؤلاء الذين فعلوا ذلك ينتقم الله منهم بعد ذلك أشد الانتقام، فقد يكون ذلك في حياة الأنبياء والمؤمنين، وقد يكون بعدهم.

فاليهود مثلاً قتلوا أنبياء الله، وكانت النتيجة عقب قتل هؤلاء مكر الله بهم، فشتتهم وشردهم وقطعهم، وسلط عليهم بختنصر فهدم هيكلهم، وقتل منهم مئات الآلاف، واستعبد منهم كذلك مئات الآلاف، وتركهم في الأرض قطعاً مبعثرة، كما قال سبحانه: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} [الأعراف:١٦٨]، ثم سجل الله عليهم عذاباً مقته وغضبه إلى يوم القيامة، فقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:١٦٧]، ولا يغرنك ما ترى اليوم؛ فهو تسليط للكافرين على منافقين، وتسليط للمجرمين على عصاة مخالفين، ولم يحدث هذا في العصور الماضية، ولكن عندما خرج المسلمون عن دين الله ورسوله وكتابه، وجعلوه وراءهم ظهرياً، وأخذوا يدعون إلى مذاهب يهودية تسمى تارة ماسونية، وتارة شيوعية، وتارة اشتراكية، وتارة وجودية، وتارة بهائية، وتارة قاديانية إلى أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، فعاقبهم الله وسلط عليهم هؤلاء، فكانت عقوبة لأقوام هم إلى الكفر أقرب منهم للإيمان، بدليل ما حدث بعد ذلك، أي: أسلموا لمللهم، وخضعوا لهم، وتحالفوا وإياهم للفتك بالمسلمين الصالحين، وشتيمة المؤمنين والتواطؤ عليهم، وما تزيدهم الأيام إلا عتواً وفساداً في الأرض، ولكن هيهات، فلينتظروا عذابهم وسخط الله عليهم.

وهذا إبراهيم عندما أخرجه النمرود من أرض العراق هاجر إلى أرض الشام، ولكن النتيجة أن كشف الله كيد النمرود وقومه، وعذبهم وأهلكهم وشرد بهم، وهؤلاء كفار مكة كفار الجزيرة كيف كان حالهم مع نبينا عليه الصلاة والسلام؟ فقد أخرجوه من أرضه، وهموا بقتله، والنتيجة نصره الله نصراً عزيزاً مؤزراً، فعاد إلى مكة فاتحاً منصوراً، وكان الطرد وكان الإبعاد لهم، وقبل ذلك شردوا وقتلوا، وبعد دخوله مكة فاتحاً كانت النتيجة أنهم طردوا طرداً أبدياً، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:٢٨].

وأما اليوم بعد ذلك بألف وأربعمائة عام فلا يحرم المسافر الكافر أن يدخل مكة والمدينة! وقد قال الله عنه: {نَجَسٌ} [التوبة:٢٨] والنَجَس: عين النجاسة، لم يقل: نَجِس، من المتنجس الذي يطهر بالماء، وإنما النَجَس، فهو كالماء العكرة التي تطهر بالماء، فهم عكرة عين النجاسة، مطرودين إلى يوم القيامة، إلى أن يشاء ربي.

وأيضاً: بعد ذلك المؤمنون ابتلوا، فقد أوذي آل البيت في الصدر الأول من الإسلام، وقتل مسلمون وصحابة أخيار، فقتل عمر، وقتل عثمان، وقتل علي، فماذا كانت النتائج بعد ذلك؟ سلط الله على هؤلاء ولو أنهم صحابة تابعون لكن كما قال الله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:٢٥] فأصابهم من البلاء من العذاب نصرة لأولئك الخلفاء الراشدين الصالحين، عمر وعثمان وعلي.

وقل مثل ذلك عن الحسين رضي الله عنه، الذي قتل من أجل الظالمين الفاجرين أعداء الله وأعداء رسوله وآل البيت، وسلط الله عليهم من سلط، فأباح أرضهم، واستباح دماءهم، واقتلعهم من جذورهم من الأرض إلى حيث لعنة الله وغضبه، وفي العصر الأخير قتل المسلمون والعلماء والدعاة إلى الله، فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة أن سلط الله اليهود على الجميع، فأما عذاب الله في الآخرة فهو أشد وأنكى، وهكذا قول الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

فنصرهم الله بأن قهروا وغلبوا، ووضعوا أقدامهم حيث كانت أقدام أولئك الأعداء الكافرين الجاحدين، وأكرمهم الله بالشهادة، ثم ينتقم من أولئك بعد ذلك، فيقتل منهم الآلاف، بل مئات الآلاف، حيث يضيعون ويشردون وينتهون ويدمرون، ولعذاب الله بعد ذلك في الآخرة أشد وأنكى.

وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:٥١] أي: ويوم القيامة عندما تقف الملائكة بالشهادة على الأنبياء بأنهم قد بلغوا ما أمرهم الله بتبليغه، وعلى المؤمنين أنهم آمنوا برسالات أنبيائهم، وعلى الكافرين بأنهم كذبوا أنبياءهم وأشركوا بربهم.