للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (أمّن يهديكم في ظلمات البر والبحر)

ثم قال تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:٦٣].

إن الله تعالى خلق هذا العالم وهذا الكون، وهذا الكوكب الأرضي بما فيه من جبال ووهاد ورمال وسهول وبرار وقفار وبحار، فحين نريد التنقل من مشرق إلى مغرب، ومن جبال إلى وهاد، فإننا نهتدي في طريقنا في الليل أو النهار، فمن الذي يهدينا، ومن الذي يدلنا، ومن الذين خلق هذه الأنجم التي نهتدي بها كما يهتدى بالمصابيح التي تكون علامات على الطريق مشرقاً ومغرباً؟! فمن الذي خلقها لتكون كذلك، وليستفيد منها الإنسان؟! وقد كان العرب في هذا أئمة، يخرج البدوي في هذه الصحاري التي ليس فيها علم ولا دلالة على شرق أو غرب أو شمال أو جنوب، ولكنه يرفع عينه إلى السماء إن كانت مصحية، فيقول لك: الطريق هكذا أو هكذا، أو: قد ضللت الطريق، فذاك أمر علمه بفطرته، وبعيشه السنين الطوال في هذه الصحاري حتى أصبح عارفاً بها.

يقول تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل:٦٣] فمن يهديكم وأنتم تشقون البحار التي لا علامة فيها لشرق أو غرب؟! ومن الذي يهديكم في البر وأنتم صاعدين وهابطين؟! ومن الذي يدلكم ويهديكم إلى الطريق حتى لا تضلوا؟! والضلال في الصحاري والبراري يعني الموت المحقق، فمن الذي يهدينا ويرشدنا ويدلنا على الطريق غير الله؟! قال تعالى: {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [النمل:٦٣].

فهذه الرياح التي تأتي مبشرة بالغيث، ومبشرة بالرحمة، من الذي يرسلها لتكون مبشرة بذلك، ثم يأتي وبعدها الغيث الغزير والمطر والرزق والخير العميم؟! ومن الذي يرسل مطره وغيثه لأهل الأرض إذا أجدبوا وأمسكت السماء قطرها؟! من الذي يرسل هذه الرياح حال كونها بشراً بين يدي رحمته يرحم بها خلقه ويرحم بها عباده؟! فيرحم بها المؤمن والكافر سواء، يرحم بها المؤمن ليزداد شكراً وحمداً لربه، والكافر ليستدرج، ولتبقى حجة الله عليه بالغة، ولعله يرحم فينتبه يوماً ويعي، ويقول: يا رب! كنت ظالماً، فاغفر لي خطيئتي يوم الدين.

ومن هنا كان الإمهال للكافر من الرحمة، وقد أرسل النبي عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين للمؤمنين والكافرين سواء، فالكافرون يمهلون لعلهم يتذكرون يوماً فيتوبون ويوحدون، والمؤمن كلما عاش يوماً ويزداد بذلك عبادة وأجراً وثواباً ورفعة، وذاك مما يحفظه الله له، ويجمعه له، فيجده يوم القيامة غيثاً ورحمة ورضى ورفع درجات مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.

قال تعالى: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:٦٣].

هذا إنكار توبيخي تقريعي، فهل هناك إله يفعل فعل ربنا، فيرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، ويهدي في ظلمات البر والبحر، ويكشف السوء، ويرسل الخير، ويرسل الرزق، ويرسل الغيث؟! الجواب باستمرار: لا أحد يفعل ذلك إلا الله، ولا قادر على ذلك إلا الله، وليس ذلك بيد أحد غير الله جل جلاله، فقد انفرد بالخلق وبالأمر وبالتدبير وبالزرق وبكل شيء.

قال تعالى: {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:٦٣].

تعالى الله ربنا وعز، وعلا مقامه وعلا شأنه وتنزه عن النقص والعيب الكائن في قول هؤلاء المشركين بأن لله شريكاً يعينه، وبأن لله صاحبة وولداً، فتعالى الله عن كل ذلك، ونعوذ بالله من أن نذكر ذلك إلا للتعلم والتعليم، وحاكي الكفر ليس بكافر، ولنزداد إيماناً بربنا، وكفراً بهؤلاء المشركين الكفرة الذين لا يعتقدون ديناً ولا يملكون فهماً ولا إدراكاً، فتعالى الله عما يشركون، وتنزه ربنا عن كل عيب ونقص.