للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض)]

قال تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:٦٤].

أي: هل هناك غير الله يبدأ الخلق ثم يعيده؟! أما البدء فقد رأيناه، فقد بدأ خلقنا ربنا جل جلاله، ورأينا ذلك في أنفسنا، ورأيناه في غيرنا من خلق الله على وجه الأرض، فهو الذي بدأ خلقنا، وأوجدنا من عدم، وأوجدنا على غير مثال سابق، ومن استطاع بدء الخلق استطاع إعادته، كما قال تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:٧٨ - ٧٩].

فإذا كان الخلق قد وجد، فمن الذي أوجده؟! ومن الذي كونه؟! ومن الذي حركنا بهذه الروح التي نعيش بها، بحسب ما قدر الله لنا من حياة ومن أجل؟! وما هي هذه الروح التي إذا نزعت أصبح الإنسان جيفة، يبادر أحب الناس إليه بأخذه وغمره في التراب حتى لا يؤذى الناس برائحته، وهو الذي كان في حال الحياة يتقرب إليه بالسمع والجلوس والأخذ والعطاء؟! فمن الذي أوجدها؟! ومن الذي خلقها؟! ومن الذي قدر على زرعها في جميع خلايا أجسامنا؟! ولطالما تساءل الناس عن الروح قبل نبينا وبعد نبينا وإلى الآن، وقد سأل الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فقال الله جل جلاله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٨٥]، فالله جل جلاله انفرد بعلم الروح، ومعرفة الروح، ولم يجب نبيه ولا من سألوه عنها.

وقد ظن المجانين السخفاء المشركون الضائعون أن في إمكانهم أن يصنعوا الروح، فبذلوا الملايين وما خرجوا إلا بخفي حنين، فقد ذهبوا إلى الأفلاك والأنجم والكواكب لينظروا كيف كان ابتداء الحياة، فما زادوا بذلك إلا ضلالاً، ولو آمنوا بالله، وطلبوا من أهل العلم أن يعلموهم بما نزل في كتاب الله من ذلك لعلموا الكثير، ولاهتدت نفوسهم وأرواحهم إلى الإيمان بالله ورسول الله وبدين الحق الذي هو الإسلام خاتم الرسالات، بعد أن جاء به رسولنا صلى الله عليه وعلى آله.

يقول تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [النمل:٦٤] فمن الذي يبدأُ الخلق، ومن يعيده؟! ومن الذي يحيينا بعد الموت؟! ومن الذي يبعثنا يوم القيامة بعد أن نموت من أول مخلوق إلى آخر مخلوق في الأرض؟! فالناس عندما يبعثون وتزرع أرواحهم في أجسامهم، سيقفون بين يدي الله يوم العرض على الله في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون، ليحسن إلى المحسن ويعاقب المسيء {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٧ - ٨]، فذلك اليوم العظيم سنعود إليه، ونحيا فيه حياة ثانية، فتكون الحياة الباقية والحياة الدائمة التي لا موت بعدها أبداً، ولا تكليف فيها، والقوم بين مخلد في النار ومخلد في الجنة، ولا وسط بين ذلك.

قال تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [النمل:٦٤] فمن الذي يرزقنا من السماء بالغيث المدرار، وبالأمطار التي يكون بها الاستنبات، وبها تكون الخيرات في الأرض؛ بحيث لو أجدبت الأرض لما أعطت قليلاً ولا كثيراً، ولما أعطت زرعاً ولا أعطت ضرعاً؟! فمن الذي رزقنا من السماء بالغيث المدرار؟! ومن الذي رزقنا من الأرض بما أكرمنا به من نبات وطير وحيوان؟! هل هؤلاء الشركاء الذين أشرك بهم من لا عقول لهم ولا إدراك لديهم ولا فهم، أم الله الواحد القهار؟! فهذه أدلة عقلية لا يدفعها إلا مجنون أرعن، وتقبلها كل النفوس السليمة، وتقبلها كل النفوس التي لم يبعها الآباء بكفرهم وبتقليدهم وبضلالاتهم، فالإنسان بالفطرة يدرك أن السماء والأرض لا بد من أن يكون لهما خالق، ولا خالق لهما إلا الله جل جلاله، الواحد المنفرد بالأمر والخلق.

قال تعالى: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:٦٤].

فهل ثَمّ إله أعانه على هذا؟! وهل ثَمّ إله مما يعبد هؤلاء الأفاكون المجانين السخفاء يستطيع فعل ذلك؟! قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:٦٤] فهؤلاء يزعمون أن لديهم علماً على عبادتهم لغير الله، فقال الله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:٦٤]، وهيهات أن يأتوا بالبرهان، وأن يأتوا بالدليل، وأن يأتوا بما يقبله ذو عقل سليم.

فهم عن الآخرة معرضون، وجاهلون، ومشركون كفرة.