للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)]

قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:٣١].

قل للمؤمنات كذلك يغضضن من أبصارهن، فلا ينظرن لعورة رجل لا وجهاً ولا غير وجه، فإن رأين النظرة الأولى الفجائية غير المقصودة فلا يعدن الثانية.

وقد دخل مرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أم مكتوم، وكان ضريراً لا يبصر، وكان بمجلسه صلى الله عليه وسلم زوجتان من أمهات المؤمنين، فبقيتا جالستين، فأمرهما صلى الله عليه وسلم بالخروج، فقالتا: أليس هو أعمى يا رسول الله؟! قال (أوعمياوان أنتما؟!).

أي: كما لا يجوز له أن ينظر إليكما فلا يجوز لكما أن تنظرا إليه.

فكما حرم الله نظر الرجل إلى المرأة حرم نظر المرأة إلى الرجل، وكما يتمتع الرجل بالمرأة تتمتع المرأة بالرجل، فالعمل واحد، والحسنى واحدة، والجريمة واحدة، وكما أمر الرجل بغض البصر أمرت المرأة بغض البصر، وكما أمر الرجل بحفظ فرجه أمرت المرأة بحفظ فرجها، وألا يراه منها أحد قط إلا زوجها.

ومن هنا كان دخول الحمامات حيث كشف العورات شيء نهى عنه السلف، وشددوا فيه ولعنوا فاعله، لأن الشأن في الحمامات أن يدخلن للحمامات كاشفات عوراتهن لبعضهن، وهذا مما حرمه الإسلام وعده كبيرة من الكبائر، وفجوراً من الفجور.

قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:٣١].

أي: لا يظهرن من زينتهن إلا ما ظهر، وزينة النساء: ما عفا الله عما ظهر منها، وأذن في بدوها، قال ابن عباس رضي الله عنه: زينة المرأة وجهها وكفاها، وقال بقول ابن عباس جمهور من المؤمنين: صحابةً وتابعين وأئمةً مجتهدين.

وقال ابن مسعود: زينة المرأة ثيابها الخارجة، وإلا فكل بدنها عورة، فلا يجوز لها أن تظهر إلا عيناً واحدة لتنظر الطريق.

والنظر بعين واحدة لا يزال إلى الآن في بلاد المغرب، فالكثيرات على هذه الحالة، وبعضهن ينظرن بعينين معاً.

كذلك كل بلاد الإسلام ما زالت على هذه الطريقة: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:٣١].

قال ابن مسعود: الذي ظهر منها هي الثياب الخارجية، فهذا لا مانع من أن يظهر، واستدل عليه بقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:٣١].

ومعناه: البسوا أحسن ثيابكم عندما تكونون ذاهبين للمساجد؛ خاصة يوم الجمعة، فالله أطلق في آية أخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.

فالزينة الثياب، وبهذه الآية احتج ابن مسعود أن المرأة كلها عورة، فلا يجوز أن يظهر منها إلا عينها أو عيناها بما ترى به الطريق، وقال غيرهما: زينة المرأة الكحل والقرط والسوار والخلخال إذا ظهرت من غير قصد، كأن مدت يدها لشراء أو بيع وظهر الخاتم أو السوار، أو جاءت لتصلح شيئاً فظهر القرط، فهذا عفا الله عنه وسمح.

وجمهور الفقهاء: على أن الوجه واليدين ليسا بعورة، ولكنهم قالوا: إذا خافت على نفسها الفتنة في عصر كثر فيه الفساد، وكثر فيه الفجار والفساق؛ ففي هذه الحالة يجب الرجوع لمذهب ابن مسعود ولكثير من السلف في أن المرأة كلها عورة، وذلك من باب سد الذرائع، ونحن نرى الفجور قد عم وطم، واليوم يكشف المسلمات النحر والصدر والفخذ والساق والشعر، فترى اليهودية والنصرانية والمسلمة لا فرق بينهن قط، ولا تستطيع أن تميز المسلمة من الكافرة.

وعلى هذا فإن الله جل جلاله ستراً وحفظاً للأنساب ومحافظة على الأعراض أمر النساء كما أمر الرجال بغض الأبصار، وبحفظ الفروج، وألا يظهر النساء من زينتهن إلا الوجه واليدين، فإن لم تأمن الفتنة، فلتستر بدنها جميعاً، وكم من نساء اليوم يلبسن الثياب الفضفاضة الحريرية، ويلبسن فوقها شيئاً لا يكاد يذكر، أو يلبسن ألبسةً قصيرة يظهر بها الساق والفخذ، وهذا مالا يجوز بحال من الأحوال، فقد حرمه الشارع في كتابه الكريم.

دخلت مرة أسماء على أختها عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم حاضر، وإذا به يخرج، فقالت عائشة لأختها أسماء: (ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأى عليك ما يكره، وإذا بالنبي يعود ويقول لها: يا أسماء! المرأة إذا بلغت المحيض لا يجوز أن يظهر منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه) واعتمد ابن عباس هذا الحديث، وقال ابن كثير في تفسيره: وهذا الذي عليه الجمهور من المسلمين.

وليت المسلمين اقتصروا على هذا، فإنه لا ينبغي للمرأة أن تتزين بكحل ولا حمرة ولا تطيب ولا تفعل أي شيء يلفت الأنظار، ومن خرجت من بيتها متطيبة لعنتها الملائكة حتى تعود.

فقد رأى أبو هريرة رضي الله عنه مرة امرأة آتية فقال لها: أين كنت يا أمة الجبار؟! قالت: جئت من المسجد، قال: وله تطيبت؟ قالت: نعم، قال: اذهبي لبيتك واغسلي بدنك غسل الجنابة، وإلا فلا صلاة لك، والملائكة تلعنك ما دمت في هذه الحالة حتى تعودي.

وهذا هو الواجب على الزوج مع زوجته، والأب مع بناته، والأخ مع أخواته، وكبير القوم مع قومه، فإذا لم يقم الزوج بالواجب عليه، ولم يقم الأب بالواجب عليه، ولم يقم الأخ بالواجب عليه، ولم يقم المدرس بواجب تدريسه، والداعية إلى الله سكت أثم الجميع، ويوشك إذا اتفق الناس على الباطل أن يعاقب الله البر والفاجر معاً، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:٢٥].

والله تعالى لعن اليهود، قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:٧٨]؛ لأن من جملة أفعالهم: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:٧٩].

فكان هؤلاء اليهود لا يأتمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، وكان بعضهم يأمر بالمعروف كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم ولكنه يصبح الصباح وهو مع أولئك الذين نهاهم يؤاكلهم ويشاربهم ويجالسهم، فيكون كمن لم يأمر، فلا بد للآمر إذا أمر بالمعروف ولم يُطع فيه أن يهجر في الله؛ لأن الحب في الله والبغض في الله من الإيمان.

وقد هجر عبد الله بن عمر ولده مدة حياته، لأنه قال له: يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله بيوت الله)، فأجابه: والله لنمنعنها، وإذا به يلعنه ويشتمه ويهجره إلى الأبد، ولم يعد لكلامه البتة.

وأما هجر المسلم أخاه ثلاثة أيام في شئون الدنيا فهو المقصود بالحديث: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) لكن عندما تكون خصومة لله وفي دين الله، فإن الواجب أن يهجره إلى الأبد كما فعل ابن عمر ما لم يرجع عما كان عليه من مخالفة لدين الله.

ويقول النبي عليه الصلاة والسلام (سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله) فكان من السبعة: (رجلان تحابا في الله: اجتمعا عليه وافترقا عليه).

فهما أخوان في الله تآخيا يأتمران بالمعروف، ويتناهيان عن المنكر، ويتعاونان على طاعة الله ومدارسة دين الله، فإذا أحدهما أمر الآخر فعصاه، ولم يمتثل لما أمر الله به ورسوله، فارقه لله وقاطعه، وهي مشروعة أبداً.

قال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:٣١].

الخُمُر: جمع خمار، وهو غطاء الرأس، أمر الله تعالى أن يُغطى الشعر بهذا الخمار، ويضرب به على الجيوب، والجيوب: هي الشقوق في ثياب الإنسان، والمرأة تزيده إلى أسفل، فيظهر نحرها وعنقها وصدرها وقرطاها، فالله أمرهن بأن يضربن بالخمر التي تستر الرءوس ليسترن العنق، فلا يظهر العنق ولا الأقراط ولا الصدر ولا النحر بحال من الأحوال.

(وليضربن بخمرهن) أي: وليضعن خمرهن.

والجيوب: جمع جيب، فيقال للشق: جيب، وقد يكون للنساء جيوب للساق فإذا تحركت ظهر لحم الساق، وقد يظهر لحم الفخذ، وقد يكون لها جيوب في الظهر فيظهر ظهرها.

وهذه الجيوب جميعاً أمر الله بسترها وتغطيتها، وحرم كشفها إلا لمن سيذكره من الزوج والمحارم.

قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: إن نساء الأنصار كن من أطوع المؤمنين لأوامر الله، فعندما نزل قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:٣١] قالت أصبحن وقد صلين الفجر مع المؤمنين والمؤمنات، وإذا بهن وكأنما على رءوسهن الغربان؛ من تخمير رءوسهن وأعناقهن وجيوبهن وما يظهر من أبدانهن.

والآية تدل في ظاهرها على أن الخمار يضرب على الجيوب لا على الوجه، ومن هنا كان فهم ابن عباس وفهم الجمهور، ولكن ذلك إذا أمنت الفتنة، وأنى لها أن تأمن الفتنة.