للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (قل اللهم فاطر السماوات والأرض)]

قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:٤٦].

أي: قل يا محمد! وادع ربك وناجه، وقل: ((اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)).

اللهم: أي يا الله، يا فاطر السماوات، يا خالقها ومبدعها على غير مثال سابق.

والفطر: الخلق على غير مثال سابق، فليس هناك شيء سابق إلا الله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن.

فالله هو الذي فطر السماوات بمن فيها وما فيها وما بينها، وهو فاطر الأرض وما عليها وما تحتها، وما فيها من إنس وجن وحيوان، وما فيها من بحار وصحاري وكل ما فيها، فالله هو الذي ابتدأها وفطرها وخلقها على غير مثال سابق، فنادِ يا محمد! ربك وادعه، لا كأولئك الذين لا يريدون أن يدعوا الله.

قوله تعالى: ((عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)) أي: يا عالم الغيب -وهو ما غاب عن الناس- يا عالماً بالأسرار! يا عالماً بما في الضمائر! يا عالماً بما في الخواطر.

وقوله: ((وَالشَّهَادَةِ)) أي: الحاضر والعلانية، أي: تعلم ما أعلن؛ فأنت تعلم ما أسر وما أضمر وما لم تتحدث به إلا النفوس والضمائر، ولا تخفى عليك خافية يا ربنا يا إلهنا.

قال تعالى: ((أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)): أنت الذي ستحكم يوم البعث والنشور، عند الحياة الثانية لهؤلاء الخلائق، أنت الذي ستعرضهم عليك وتحكم بينهم باختلافهم؛ فأنت تعلم المحق من المبطل، وتعلم من الذي أتى الهداية والذي عاش على الضلالة، ومن الذي قال الحق والذي عاش في الباطل، فستحكم بينهم يوم القيامة ((فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)).

تحكم بين النصارى ودعواهم: أن الله ثالث ثلاثة، وبين اليهود ودعواهم أن عزيراً إلههم، وتحكم بين اليهود والنصارى والمسلمين؛ وتحكم بين الذين ادعوا أنهم أبناء الله وأحبابه من النصارى واليهود، وتحكم للمسلمين الذين قالوا: إن الله واحد في ذاته، واحد في صفاته، وواحد في أفعاله، وأنه الخالق القادر الرازق المدبر للأمر، ليس له شريك لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.

في الصحيح والسنن: سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها: (يا أم المؤمنين! بماذا كان يبتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام للصلاة في الليل؟ قالت: كان يقول: الله أكبر، ثم يقول: اللهم رب جبرائيل وإسرافيل وميكائيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي إلى صراط مستقيم).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعبد الله بن عمرو ولغيرهما رضي الله عنهم: (إذا أصبحت وإذا أمسيت فقل: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون من قال ذلك حين يصبح، ومن قال ذلك حين يمسي يحفظه الله من كذا وكذا)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

وهذه الآيات جاءت بياناً للتوحيد وللهداية إلى الحق، وللإيمان الصدق بعد كفر أولئك الذين جعلوا مع الله شركاء، والذين إذا ذكر الله يستكبرون، والذين إذا سمعوا اسم الله تجدهم قد اشمأزت نفوسهم ونفرت قلوبهم، وحاصوا حيصة حمر الوحش، أما المؤمنون حقاً فهم الذين إذا ذكر الله اطمأنت قلوبهم، إذا ذكر الله فزعت قلوبهم، إذا ذكر الله تجدهم إذا هم بجميع خلايا جسومهم، وبجميع أعضائهم حامدون شاكرون راجعون لله فرحين، عكس أولئك المنافقين.

قال تعالى: ((أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ)) أي: أنت يا الله الحكم الحق، وأنت الحكم الذي تهدي الناس إلى سواء الصراط المستقيم، فمن آمن في الدنيا فله السعادة، ومن أشرك إلى ما بعد الموت يعرف الحقيقة، ويكون قد فاته الزمن، وقد مات على الشرك، فلا ينفعه إذ ذاك إيمان ولا توحيد ولا عودة إلى الحق؛ لأن الإيمان الذي قلنا به في دار الدنيا هو إيمان بالغيب.

أما حين يصبح الإيمان إيمان حضور وشهود فإنه يكون الكافر والمؤمن إذ ذاك سواء، قال تعالى: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:١٥٨].