للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة)]

ثم قالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:٧٧].

وهذا كلام المؤمنين الموحدين قالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:٧٧] أي: هذه الكنوز والأموال التي أكرمك الله بها وأعطاك، ابتغ فيها وفي عملها وتوزيعها الدار الآخرة، فاجعل هذه الأموال للفقراء والمساكين والمحتاجين، ولأسرك وأقاربك ورحمك، ولأداء الحقوق الواجبة من زكوات، ولإجابة السائل الفقير المحتاج، واتخذها طريقاً للآخرة.

قال تعالى: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:٧٧] ولم نقل لك: وزعها على الناس وانسَ نفسك، بل خذ حصتك منها حلالاً ليس حراماً، خذ من الحلال والطيبات ومما أباح لك الشارع.

وهكذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام رغم زهده في الدنيا، فقد كان يأكل الحلوى، ويأكل أنواع اللحوم، ويلبس من الثياب ما وجد، ومرة اشتريَ له ثوبٌ بمائة ناقة، وكان يستقبل به الضيوف والوفود، وكان له جوار وغلمان وزوجات ولكن كل ذلك كان نفقة لهؤلاء، وما فضل منها يكون للفقراء والمساكين وذوي الأرحام، فهو لم يحرم حلالاً، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:٣٢].

وإنما منع نفسه من أكل الضب، وقال: ليس بحرام؛ لأنه عافه وكرهه؛ ولأن قومه بمكة لم يكونوا يأكلونه.

وإنما منع نفسه من البصل والثوم لكراهته في رائحته، وقال: ليس بحرام: (ولكني أناجي من لا تناجون)، أي: يستقبل الوحي ويناجي ملائكة الرحمة وجبريل رسول الله إليه، أما غير ذلك فقد كان يأكل ما وجد، إن وجد اللحم أكله، وإن وجد التمر أكله، وإن لم يجد شيئاً صبر وصام عليه الصلاة والسلام.

وكان ينهى عن التكلف، كما قال سلمان رضي الله عنه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نتكلف للضيف) أي: لا يتكلف لإيجاد مفقود، ولا يبخل بموجود.

فقوله تعالى: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:٧٧] أي: خذ سهمك وحصتك من الحلال تزوج وكل واشرب من غير سرف ولا تبذير، ولا تشرب خمراً ولا تأكل خنزيراً، ولا تأكل حراماً، فقد أباح الله من المناكح والمآكل والمشارب والطيبات ما كان حلالاً طيباً، وما سوى ذلك فحرمه الشارع لمصلحة الإنسان نفسه، لما فيه من الضرر والأذية، ولما فيه من فساد هذا الجسم البشري.

قال تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:٧٧].

فقد أحسن الله إليك بهذا الغنى الواسع، فأحسن كذلك، أعط السائل والفقير، وأعطِ المحتاج والقريب والبعيد، وشارك في بناء المعابد والمساجد والمعاهد، واكسُ العريان وأطعم الجائع، واسق العطشان، وأعز الفقير بعطائك، وهكذا أحسن، وترك المفعول في قوله: أحسن لشموله وعمومه، أي: أحسن للخلق إنساناً وحيواناً، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (في كل ذات كبد حرى صدقة)، حتى إطعام الحيوان وإطعام الطير فيهما أجر وثواب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (دخلت امرأة النار في هرة، فلا هي أطعمتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، فهذا حيوان مستأنس داجن حبسته فجاع حتى مات فعوقبت بسبب ذلك بالنار.

وقال: (رحم الله بغياً رأت كلباً يلهث على رأس بئر في صحراء ما استطاع أن ينزل إلى الماء، ولا وجد الماء عالياً فيشرب منه، فجاءت وأخذت نعلها، وأخذت قطعة من ثوبها، وفتلتها حبلاً ثم سقت في تلك النعل ماء وأشربته إلى أن ارتوى، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فغفر الله لها)، ولذلك كان يقول عليه الصلاة والسلام: (من لا يرحم لا يرحم).

ورحمة الله سبقت غضبه سبحانه، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (سبقت رحمتي غضبي).

ولذلك نبتدئ القرآن، ونبتدئ السورة بقولنا: (بسم الله الرحمن الرحيم) وهي آية في سورة النمل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:٣٠]، فهو الرحمن، وهو الرحيم، وهو من سبقت رحمته غضبه.

قال تعالى: {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:٧٧].

أي: لا تفسد في الأرض ولا تزهق الأرواح ظلماً ولا تأكل أموال الناس باطلاً ولا تأت على شجر فتقطعه للفساد، ولا تفسد على الناس مياهها وآبارها، ولا تنشر الفساد كأنه مذهب ودين، بل كن براً عطوفاً محسناً متصدقاً، كن لين العريكة، واخفض جناح الذل من الرحمة للمؤمنين وعباد الله الصالحين، هذا يقوله المؤمنون، ويكرره الله إشادة به، ومعناه أيضاً: المخاطب به، ولكل من كان له مال كـ قارون وغيره أن يتمتع بالطيبات والحلال، وأن يحسن كما أحسن الله إليه، وأن يأخذ نصيبه من الطيبات، ولا يجعل نعمة الله عليه وبالاً، ولا يفسد بها في الأرض، فيوشك أن يعاقبه الله عليها، وأن ينزعها منه كما فعل مع قارون.

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:٧٧]، وإذا قال الله: (لا يحب) فمعناه: حرم وكره، ومعناه: نهى ومنع.