للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحكمة من كثرة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم]

قال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب:٥٠] أما بقية المسلمين فقد استثناهم الله من جواز الزواج بالهبة فقال عنهم: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب:٥٠].

أي: قد علمنا وعلّمنا المؤمنين ما جعلنا من فرائض وأحكام وواجبات في زواجهم، وذلك أنه حصر زواج المسلم بألا يزيد عن أربع، وحرّم عليه الواهبة نفسها بلا مهر ولا ولي ولا شهود، في الوقت الذي أباح للنبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوج بلا حد وبلا حصر، ولم يجتمع عنده أكثر من تسع.

وفي ذلك حكم بليغة، فنقول لأعداء الإسلام وللمنافقين من أدعياء الإسلام، الذين حاولوا أن يتكلموا في رسول الله عليه الصلاة والسلام: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يتزوج حتى بلغت سنه خمساً وعشرين سنة، وكان في منتهى القوة والجمال، فلو كان شهوانياً -وحاشاه من ذلك ولعن الله من زعم ذلك- لتزوج قبل العشرين، ولتزوج على عادة قومه العشر والعشرين لكنه لم يفعل، وعندما تزوج وهو ابن خمس وعشرين سنة لم يكن هو الراغب الطالب الخاطب، ولكنه كان المرغوب فيه والمقصود والمطلوب، وكل ذلك قبل النبوة بخمسة عشر عاماً، وكان متولياً التجارة للسيدة خديجة إلى أرض الشام فربحت وبلّغها غلامها ميسرة عن حالات النبي عليه الصلاة والسلام في رحلته للشام في تجارتها، فغبطته، وأرسلت له بأنها ترغب التزوج به، فخطبها له عمه أبو طالب فرضيت؛ لأنها كانت حريصة ومغتبطة بالزواج منه.

وعندما تزوجها كانت ابنة أربعين سنة، فبينه وبينها خمسة عشر عاماً، وكونها عجوزاً أقرب.

وأقول مبيناً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عما زعموه: لقد قنع صلى الله عليه وسلم وهو شاب قوي رائع الجمال أن يتزوج أرملة سبقه إليها زوجان وولدت منهما كليهما، وعندما تزوجها صلى الله عليه وسلم قنع بها ولم يتزوج عليها قط، وقد ماتت في السنة الثامنة من النبوة أو السابعة، ومعنى ذلك: أنها ماتت وسن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد شارف الخمسين، أي: عاشت معه خمساً وعشرين سنة، أي: أن زهرة شبابه وزهرة قوته وزهرة جماله قصرها على هذه الأرملة، ولم يتشوف للزواج عليها قط وإنما تزوج بعد موتها وبعد الهجرة، ومن هنا ندرك ونعلم أنه صلى الله عليه وسلم ليس شهوانياً وحاشاه من ذلك.

وهو لم يتزوج بكراً قط إلا عائشة، وزوجه الله بها، نزل إليه جبريل وهي مصورة في قطعة حرير فقال: (هذه زوجتك، فلما بحث عن الصورة وجدها بنت أبي بكر) كما زوجه الله زينب بنت جحش.

وكان زواجه بهؤلاء النسوة ليربط العلائق مع العشائر العربية والقبائل العربية؛ ليكون ذلك داعياً إلى إسلامهم وإلى كسر عداوتهم، ولقد قلنا أكثر من مرة إن أبا سفيان وكان الحاقد الناقم على رسول الله وعلى دينه وعلى جميع بني هاشم، ومع ذلك عندما آمنت ابنته أم حبيبة وهاجرت الهجرة الأولى للحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش، فارتد هذا الزوج وبقيت متمسكة بإسلامها، فخطبها النبي عليه الصلاة والسلام من النجاشي وكان قد أسلم، وكان هو الولي للمسلمين في الحبشة، فعندما تزوجها صلى الله عليه وسلم وأرسلت إليه إلى المدينة بلغ ذلك أبا سفيان وهو على غاية ما يكون من الحرب والعداوة، وإذا بـ أبي سفيان يقابل ذلك بارتياح وبسعادة وغبطة ويقول عن النبي عليه الصلاة والسلام: هو الفحل.

فكان هذا الفعل من رسول الله عليه الصلاة والسلام جمعاً له وكسراً لعداوته وتأليفاً لقلبه، وكانت النتيجة أن أبا سفيان بن حرب آمن وأسلم، فتزوج صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرها من قبائل العرب، وكل هذه القبائل آمنت وأسلمت وآزرت النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الحكمة من تعدد زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، وهي واضحة وضوح الشمس، ولا ينكرها إلا مشرك أو منافق ومن في قلبه مرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دين الإسلام.

قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب:٥٠] أي: قد علم الله ما فرض عليهم وهو الآمر وهو الذي علمهم ذلك وحصر الزواج بالنسبة لعموم المسلمين في أربع حرائر، أما ما ملكت يمينهم فلا عد ولا حصر.

وتتبين الحكمة من كون ملك اليمين بلا عدد إذا عرفنا المثال الآتي: في الحربين العالميتين اللتين جرتا في هذا القرن، وقع من الأسرى عند الدول التي انتصرت على ألمانيا ما يزيد على خمسة وعشرين مليوناً من الخلق.

فهؤلاء الأسرى كان ثلاثة أرباعهم من النساء ولم يقاتلن، فماذا يصنع بهؤلاء النساء، خربت بيوتهن، وقتل آباؤهن وأولادهن وإخوتهن وأزواجهن، فأخذوهن ووزعوهن على العالم للبغاء والزنا والفساد، فانتشر في العالم عشرات الآلاف من أولاد البغايا، وأدخلوا الفساد لكل دار وكل بلدة وقطر، وأصبحت ألمانيا بعد ذلك ثلاثة أرباع سكانها من النساء ممن سلمن من الأسر، فهؤلاء النسوة لم يجدن زواجاً ولم يجدن حتى الحرام لا خليلاً ولا زانياً، وأصبن بسعار الجنس وشدته فقمن بالمظاهرات، وطلبت فئة منهن بتعدد الزوجات كما عند المسلمين، فالبعض حصر ذلك في أربع كالمسلمين، والبعض الآخر طلب أن يكون ذلك بلا حد، واكتفت فئة منهن بإعارة الأزواج كما يعار الفحل للبهائم.

وكتب كبير ألمانيا إذ ذاك إلى رؤساء العالم الإسلامي، وطلب تقارير عن تعدد الزوجات في الشريعة الإسلامية، ومع الأسف كان المسلمون قد تراجعوا عن تعدد الزوجات، وأصبحوا يستحون أن يذكروا تعدد الزوجات، وأخذوا يقلدون الكفار في عدم التعدد ومنعه حلالاً وإباحته حراماً، كقوانين دول الكفر كلها، ودخل ذلك في قوانين جميع المسلمين، سوى بلادنا المقدسة هذه.

فجميع القوانين التي يتحاكم إليها المسلمون أباحت الزنا من المرأة والرجل إذا بلغا سن الرشد، إذا تراضيا على ذلك، ولا حق لأحد أن يشتكي، إلا إذا اشتكى الزوج بالزوجة أو الزوجة بالزوج، فلا حق لأب ولا لأخ ولا لزعيم ولا لنائب ولا لمجتمع.

وقد جاء الإسلام من الله وهو أعلم بالحكمة التي تصلح المسلمين، وقد فرض الجهاد لإعزاز دين الله، وللدفاع عن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، وهو يعلم سبحانه أن الحروب لا تنتهي إلا بالقتل والتدمير والخراب وموت مئات الآلاف وعشرات الملايين من البشر، فنساء هؤلاء الملايين ستؤخذ أسرى فما يصنع بهن؟ إنهن يحتجن للأكل والشرب واللباس وإلى ما تحتاجه النساء من الشهوة، فعندما أباح الله التسري والتملك بلا عد ولا حصر فمعنى ذلك أن يقوم الناس متضامنين لخدمة هؤلاء الأسرى نفقةً ولباساً وسكناً وكفايةً وشهوة تكفهن عن الشر وعن نشر الفساد في الأرض، ولا يترك ذلك كما ترك لأوروبا في أسراها في الحربين.

فهؤلاء الأسرى كانوا يعاملون أقل من معاملة الكلاب، فكانوا يقتلون لأي سبب، ويذلون لأي سبب، ويجاعون إلى حد الموت، وتنتهك حرمات الأسيرات ضرباً وإيذاءً وتفنناً في التعذيب، ولا أحد يرفع صوته.

أما الإسلام فقد أباح ذلك خدمة لهن ورعايةً لمصالحهن، والوصايا في هذا كثيرة جداً، ومنها قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إخوانكم خولكم)، أي: خولكم إخوانكم، وهذا يستشهد به في النحو من تأخير المبتدأ على الخبر وكلاهما معرفة، وأن المعنى يدل على أن هذا مبتدأ وهذا خبر.

(إخوانكم خولكم) لو ذهبنا نعرب (إخوانكم) مبتدأ، و (خولكم) خبراً، فإن المبتدأ مسند إليه والخبر مسند فيكون المعنى: إخوانكم أشقاؤكم هم عبيدكم وخولكم، والإسلام لا يريد هذا، لكن معنى الكلام فيه تقديم وتأخير فتكون الجملة: (خولكم إخوانكم) أي: خدمكم.

وقد منع النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول الإنسان: عبدي أو أمتي بل يقول: فتاي وفتاتي، كلمة أشبه بالدلال: يا غلامي كأنك تنادي: يا ولدي، ويا بنيتي عندما يقول لها: يا فتاتي، والإسلام اعتبر الإنسانية في الصلة.

فقال صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم، أطعموهم مما تطعمون، وألبسوهم مما تلبسون، وإذا كلفتموهم ما لا يطيقون فأعينوهم)، أي: اعتبرهم صلى الله عليه وسلم إخواننا، فأمر أن يطعموا معنا مما نطعم، وأن يأكلوا من أكلنا، ويلبسوا من لباسنا، ويسكنوا سكنانا، ويعيشوا عيشتنا، وإذا حملناهم ما لا يطيقون أن نعينهم كما نعين أولادنا لأصلابنا.

من الذي أتى بهذا؟ حضارة ماركس خاب وخسر هو وأنصاره وأتباعه! أم حضارة نابليون، وهو الذي وضع القانون الذي نسب إليه! أم أمريكا وأوروبا خابوا جميعاً وخسروا، فبلادهم بلاد الفواحش والمنكرات والفساد والظلم والقسوة وسفك الدماء، وبلاد نشر الفواحش بجميع أشكالها، ومع ذلك نرسل أولادنا إليهم بلا رقابة ولا إشراف ورعاية ولا عناية، يذهبون بدين الإسلام ويعودون بلا دين، يذهبون برجولتهم ويعودون بلا رجولة، يذهبون أصحاء الأبدان ويأتون منهوكين ضائعين، ترى ابن العشرين وكأنه ابن الستين والسبعين، نتيجة إسرافه على نفسه، هذه هي الحضارة الأمريكية والأوروبية.

{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب:٥٠] هذه متعلقة بالكلام الأول عن النبي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ} [الأحزاب:٥٠] إلى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:٥٠] فقوله: ((لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ)) أباح له ذلك ووسعه عليه، ليتبع حكمته وسياسته وطريقة دعوته.