للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد)]

قال تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة:١٠].

قال هؤلاء المشركون الذين لا يشكرون الله على نعمه، ولا يذكرونه، ولا يقول الواحد منهم يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، قالوا: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:١٠].

وهو استفهام إنكاري من جاحد كافر.

ومعنى: (ضل في الأرض) غاب فيها، وهلك فيها، فلم يبق له وجود ولا كيان، يقال: ضل الماء في اللبن: إذا غاب فيه، ولم يبق له أثر من حيث النظر.

فهم يستفهمون منكرين جاحدين قائلين: أئذا غبنا في الأرض وهلكنا {أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:١٠]؟! أي: هل يمكن أن نرجع مرة أخرى، ونخلق ونبعث خلقاً جديداً وبعثة جديدة؟! قالوا ذلك لكفرهم، ولو فكروا قليلاً واستعملوا عقولهم قليلاً لعلموا أن القادر على النشأة الأولى قادر على الإعادة، قال تعالى عن جاحد كافر: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:٧٨ - ٧٩].

فمن الذي أنشأها على غير مثال سابق؟ ومن الذي أوجدها من عدم لا مخرج من أن يقولوا: الله، وإذا كان كذلك فالذي قدر على إيجادها من عدم، وأنشأها بلا مثال سابق، أهون عليه -والكل هين عليه- أن يعيد حياتها ووجودها وكيانها مرة ثانية، فذاك منطق العقل لمن له عقل، وأين العقل من الكافرين المشركين الذين قال الله عنهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:٧]؟! لقد فكروا في الأكل والشرب، وفكروا في البطن والفرج، وفكروا في الزوجة والولد، ولم يفكروا يوماً في خلقهم، وكيف سيموتون، ولماذا يموتون، وماذا بعد الموت، على أن الأنبياء طالما قرعوا أسماعهم بما سمعوه عن الخلق جيلاً بعد جيل، وعصراً بعد عصر بالكتب المنزلة عليهم، وبما سجله علماؤهم، والمؤمنون منهم، فأعرضوا عن كل ذلك، وأبوا إلا الجحود والكفر والضلال، فهم يتعجبون قائلين: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} [السجدة:١٠]، أي: غبنا في الأرض وهلكنا وفنينا: {أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:١٠].

أي: أنكون خلقاً جديداً؟ أيمكن أن نبعث كما يقول ذلك محمد صلى الله عليه وعلى آله؟! وطالما ضرب الله الأمثال على هذا، أرانا الأرض وهي ميتة جدباء قاحلة ليس فيها نبت ولا حياة، وإذا بالله جل جلاله يمطرها بالغيث، فإذا بها تهتز، فتخرج من داخلها أنواع من الخضراوات ومن الثمار مما يعيش عليه الحيوان والناس.

فهذه الأرض كانت ميتة، رأينا موتها بأبصارنا، ثم بعد ذلك اهتزت بقليل من الغيث وربت وتحركت، وأنبتت من كل زوج بهيج، ومن كل زوج كريم، أليست هذه حياة جديدة؟ فالنخلة تعطي ثمرها كل سنة، فتعطينا بلحاً، وتعطينا رطباً، وتعطينا تمراً، أليس هذا خلقاً جديداً يتجدد كل عام، ويتجدد حسب الفصول والأعوام؟! وهكذا نحن، فأمنا الأرض، منها خرجنا ومنها خلقنا، وإليها سنعود، ومنها سنخرج مرة ثانية عندما ينفخ إسرافيل في الصور، وإذا بنا قياماً بين يدي رب العالمين.