للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى الباقيات الصالحات]

قال الجمهور: الباقيات مأخوذة من لفظها، أي: الصالحات الدائمات، فصالح المال ينتهي، وصالح اللباس ينتهي، وصالح السكن ينتهي، وصالح الجاه ينتهي، أما صالح العبادة وذكر الله قائماً وقاعداً وعلى جنب فهي الباقيات، وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحواله، روي عن أبي سلمة وأبي الدرداء: أن الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أي: الذكر بالتهليل والتعظيم والتسبيح والتنزيه، فهو الذكر الدائم الخالد الصالح، وهو أكثر ثواباً من غيره، والصلاة أشرف العبادات، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:١٠٣]، ويقول عن الذكر: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:٤٥]، والصلاة مشتملة على الذكر وأنواع العبادات من قيام، وقعود، وجلوس، وتلاوة قرآن، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهي عبادة جامعة.

وقال أبو الدرداء: إني لأهلل ربي وأسبحه وأعظمه وأنزهه حتى يقول الرائي والمبصر لي: مجنون، وهذا تحقيق لقوله صلى الله عليه وسلم: (اذكر الله حتى يقال: مجنون)، ولم لا يجن الإنسان بذكر الله وقد جن البشر بالبشر، فـ مجنون ليلى جُن بـ ليلى وهي إنسانة من لحم ودم، وليست نبية ولا بنت نبي ولا صالحة، ولا بنت رجل صالح، ولكنها امرأة من عامة الناس جن بها وتاه، وضاع سنين طويلة، فكان لا يرى إلا مع الحيوانات في الفيافي والبراري، ولقد حكى أحد كبار العارفين أن ليلى بعد أن تزوجت قالت لزوجها: بلغني أن المجنون في هذا المحيط فهل تسمح لي أن أبحث عنه وأقف عند رأسه وأكلمه؟ قال: افعلي، فأخذت تبحث عنه فوجدته فقالت له: قيس! وهو لا يجيب، فقالت له: أنا ليلى، فعندما قالت ذلك رفع رأسه فصوبه وصعده ثم قال لها: إليك عني أنا مشغول بك عنك.

وفسر هذا العارف الكبير قولته هذه: أن طريق حب مجنون ليلى لـ ليلى كان طريقه لحب الله والفناء فيه؛ لأنه عندما رفع بصره إليها وجدها قد تغيرت، إذ لم تكن على الصورة المعروفة عنها منذ أكثر من عشرين عاماً، فقال لها: أنا مشغول بك عنك، فمن الذي أعطاك ذلك الجمال الذي تيمني؟ ومن الذي أزاله عنك؟ إذاً: أنا مع الذي لا يزول ولا يحول، أنا مع الله جل جلاله، وهكذا تيم المجنون في الله، وأصبح شعره في الله جل جلاله.

فقوله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [مريم:٧٦] أي: ذكر الله وتسبيحه وتهليله وتمجيده، قوله: {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} [مريم:٧٦] أكثر ثوابا، ً وأصل خير: أخير، ولكن خير صيغتها هكذا بلا ألف، قوله: {وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم:٧٦] أي: في مردودها الأجر والثواب، ورضا الله ورحمته بالذاكرين الموحدين المهللين المسبحين، إذ يكون أجرهم في الدرجات العلى عند الله في جناته.