للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم)]

قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:١٠].

أي: قل يا محمد! لعبادي الذين آمنوا أن يزيدوا مع الإيمان تقوىً وصلاحاً، وعملاً وإيقاناً.

والإيمان: التصديق في القلب بما يدوم عليه الإنسان، ولكن الإيمان يحتاج إلى عمل وإلى تقوى.

والتقوى: أن تتقي الله في محارمه، وأن تتخذ وقاية تحول بينك وبين غضب ربك، بأن تطيع أوامره، وأن تجتنب نواهيه وتتركها.

قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [الزمر:١٠].

الدنيا برزخ الآخرة والطريق إليها، وللذين أحسنوا حال حياتهم فيها حسنة، أحسنوا بالإيمان والتقوى، والطاعة وترك المعاصي، وأطلقت الحسنة في الآية، فأي حسنة في الدنيا هي حسنة في الآخرة، فهم في الدنيا يعيشون عيشاً كريماً من قبل الله جل وعلا يكرمهم ويعزهم ويعطيهم ويعافيهم، حتى إذا ابتلاهم كان ذلك رفعاً للدرجات، يوشك إن قالوا: يا رب ارفع مقتك وغضبك أن يستجيب دعاءهم، فيكون ذلك أجراً لهم وثواباً.

وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما من شوكة يشاكها المؤمن إلا كتب له بها أجر، وحط عنه بها سيئة، ورفع له بها درجة).

وما عسى أن تكون هذه الشوكة، ما من شوكة تصيب مؤمناً إلا وكانت له رفعاً للدرجات وحطاً للسيئات.

وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (المؤمن على خير، إن أصيب صبر، وإن أنعم عليه شكر) فهو بين صبر وشكر في عبادة دائمة.

قال تعالى: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر:١٠] معناه: هؤلاء الذين يعتذرون ويقولون: لا يمكن الهجرة في أرض الله لعبادة الله كما أمر؛ لأنهم يمنعوننا من ذلك، ومن الدعوة إليها، لا عذر لهم لأن أرض الله واسعة.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:٥١] فموالاة اليهود يهودية، وموالاة النصارى نصرانية، وموالاة النفاق نفاق، وإذا لم يستطع أن يقول: هذا حرام، فليهجره وليتركه.

وقال تعالى في سورة النساء: {قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء:٩٧] أي: أين عبادتكم؟ أين اجتهادكم؟ أين طاعتكم؟ فعندما تسألهم الملائكة: أين كنتم؟ قالوا: كان حكامنا يستضعفوننا، ويمنعوننا من ذلك ومن إعلانه، فقالوا لهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:٩٧].

فليست جميع الأرض أرض كفر ونفاق ومعصية، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديثه المتواتر: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق وهم على ذلك إلى يوم القيامة، لا يضرهم من خذلهم).

وهذا مؤكد من خبر رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، فإذا كثرت المعاصي ومنع من الإيمان بربه وإعلان ذلك فليخرج للناس وليترك ذلك البلد.

قال: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر:١٠] وهذا جواب لمن بقي في مكة مستضعفاً، وقد هاجر المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وهاجر معه المهاجرون من مكة، وبقيت فئة.

هذا سبب النزول ولا عبرة بالسبب، فالعبرة بعموم اللفظ، واللفظ: أن يقال لمؤمن في كل عصر عندما يأمر بنصرة الدين وبالعمل له من غير أن يأتي كافراً ولا منافقاً، حتى إذا اعتذر بأنه مستضعف وبأنه يمنع يقال له: أرض الله واسعة، فمن الذي ألزمك بالمقام هنا؟ فأرض الله ما جعلها الله إلا لعباده، يقول الإمام مالك: حيثما وجدت قلبك فخيم.

أي: حيثما وجدت قلبك متفتحاً لدينك لعبادتك لطاعة ربك فأقم هناك، أما أن تساكن الكفار عن رغبة منك فذلك البلاء، وقد حرم ذلك المصطفى عليه الصلاة والسلام وقال: (أنا بريء من كل مسلم يساكن الكفار، لا تتراءى ناراهما).

فلا يجوز له أن يسكن الأرض بحيث يرى نار الكافر ويرى ناره، فإن هذا حرام في شريعة الإسلام، فحينما ينتشر في بلاد المسلمين فيدخل فيها المفسدون ويصبح حكامها كفاراً أو منافقين، فيجب أن يتركها.

أما أن يسكن بنفسه عن طواعية منه ورضاً، ليس أسيراً ولا سجيناً في بلاد الكافرين يهوداً كانوا أو نصارى أو منافقين فذلك ما حرمه الله.

ومن هنا كانت الهجرة واجبة، ومن هنا أمر الله نبيه وهو في أرض مكة المكرمة أن يهجرها إلى حيث يجد حرية العبادة وحرية نشر الإسلام والدعوة إليه.

ولذلك أرسل قبل ذلك بزمن جماعة من أصحابه برئاسة جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة، ثم أمر أن يهاجر أصحابه إلى المدينة المنورة ثم لحقهم، ولم يفعل على أنه ترك أرضه للكافرين، بل خرج من بلده ليضع رجله في أرض تتحمله، فيعد للقتال وللتحرير، ولنشر الإسلام رغم أنوف أولئك الكافرين.

وهكذا صنع المصطفى عليه الصلاة والسلام، إذْ هاجر من مكة إلى المدينة وأعد عدته وجمع جموعه، ثم جاء زاحفاً صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنصره الله نصراً عزيزاً مؤزراً، وانضمت مكة إلى دار الإسلام حيث طرد الله الكافرين إلى الأبد.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:٢٨] ومضى على هذا ألف وأربعمائة عام وزيادة؛ لأن جسم الكافر لا تطهره البحار، ولذلك لا يجوز أن يدخل مكة والمدينة فينجسها بكلامه وببدنه، وإذا مات ودفن في مكة والناس لا يعلمون وجب أن تنبش جيفته وتخرج خارج الحرم.

قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:١٠].

يخبر الله سبحانه أن الصابرين على طاعة الله وعلى بلائه، وفي الجهاد في سبيله، الباذلين أموالهم وأولادهم وكل عزيز عليهم ليعز دين الله، ليعز المسلمون، هؤلاء يوفيهم الله أجرهم يوم القيامة بلا حساب، كما قال الحسن البصري وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري في تفسير هذه الآية: إذا كيل للعابدين بالكيل أجراً أو بالموازين ثواباً فهؤلاء الصابرون يحثى لهم حثواً بلا حساب، فلا تنظر سيئاتهم، ولا ينظر لحسناتهم، بل يعطون من أول مرة وكأن السيئة غير موجودة، لأنها تغفر من غير أن ترى.

وكأن الحسنات لا عداد لها أيضاً، فهو يعطى أجره بغير حساب، يعطى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لأنه صبر على طاعة ربه، وعلى بلائه، فلم يستنكف عن صلاة ولا عن صيام ما دام قادراً، يصلي صلواته الخمس ويؤدي زكاة ماله، يؤدب أولاده أدب الإسلام، أخلاقاً وعبادةً ومعاملةً.

قوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:١٠] أي: العطاء الوافي بزيادة، فيوفيهم الله أجورهم بلا حساب وبلا وزن وبلا كيل، سواء من صبر على البلاء وهو يدعو إلى الله أو صبر على الطاعة، ومن باب أولى إذا صبر على كل ذلك.