للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى قوله تعالى: (ولا تجسسوا)]

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:١٢].

وجاء التجسس بعد الظن لتأكيده، فقد يظن إنسان شيئاً بالإنسان فيريد أن يحقق ظنه فيتتبعه، من سمع لغطاً في دار ليلاً فقال: لا بد أن هناك أجنبياً، فذهب يتجسس وجلس يسترق السمع خلف الأبواب، فهذا تجسس حرمه الله.

ويروى أن عمر بن الخطاب كان يقوم بالعس في الليل بنفسه، فخرج يوماً ومعه عبد الرحمن بن عوف، فسمع أصواتاً فجاء ومعه عبد الرحمن فتسور الجدار ودخل على أهل البيت وفاجأهم فوجد غناء ونساء، وكان صاحب البيت كبيرهم، فقال: يا فلان! أمثلك يفعل هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت قد أسأت مرة فقد أسأت ثلاثاً، فالله يقول: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:١٨٩]، وأنت تسورت علينا الجدار، ويقول: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:٢٧]، ودخلت بغير إذن، ويقول: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:١٢]، وأنت تجسست! فالتفت عمر إلى عبد الرحمن وقال: أكذلك يا ابن عوف؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين، فخرج، فلما زالت السكرة عن صاحب البيت وجاءت الفكرة أصبح يخجل من أن يرى عمر رضي الله عنه، فكان إذا ذهب للصلاة يختفي بين أركان المسجد.

فـ عمر لم يعاقبه؛ لأن الطريقة التي اطلع بها على منكر هؤلاء لم تكن شرعية، ولم تكن مأذوناً بها، ولذلك ألغى عقوبته، ومن جانب آخر أراد منه أن يقلع بلا تهديد ولا إنذار، فقال له: يا فلان! السر الذي بيني وبينك ما أخبرت به أحداً؛ لأنه سيكون غيبة، ولكن إياك أن تعود لمثل ذلك، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، فبعد ذلك إن عاد سيعتبره فاسقاً، وفي حديث نبوي: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، ولو تكرر ذلك منه لكانت صفته صفة الفساق الذين لا يصلحون، وقد ثبت عنه أنه لم يعدها قط.

فقوله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:١٢].

قال بعض أهل اللغة: تجسس وتحسس بمعنى واحد، وهو أنه ذهب يستطلع الأسرار ويستخبر المكتوم.

وقال بعضهم: التجسس يكون في السوء، والتحسس يكون في الخير، ومنه قوله تعالى حكاية عن يعقوب حين أرسل بنيه إلى مصر: {فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف:٨٧]، أي: ائتوني بخبر تبشروني به بأن يوسف لا يزال حياً، وأن أخاه الذي لحق به لا يزال حياً.

والجاسوس إن تجسس على الناس فإنه يعزر بعشر جلدات، وقد يرى الحاكم أكثر من ذلك، وإن ذهب يتجسس بالنظر في ثقوب الباب فلصاحب البيت إن رآه أن يفقأ عينه، وقد فعل هذا أحد قليلي الأدب من ضعاف الإيمان مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بما كان يريد أن يفقأ به عينه فوجده قد رفع رأسه، فقال: (لو ثبت لفقأت عينك).

وهذا الأمر اعتبره جمهور الفقهاء تهديداً، ولكن الظاهرية الشافعية قالوا: ليس هو بالتهديد، بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مطاع، ولذلك فجزاء كل من تجسس بالنظر في ثقوب الأبواب أن تفقأ عينه.

وعقوبة الجاسوس من المسلمين على عورات المسلمين ليبلغها للكافرين هي القتل؛ إذ قد استباح أعراض إخوانه المسلمين، وأعان الكافرين عليهم، فمن فعل ذلك فعقوبته الموت، إذا علمنا أنه فعله وقد ارتد عن الإسلام بقول أو فعل فإنا نقتله على أنه مرتد، ونعامله معاملة المرتدين، بحيث لا نغسله ولا نكفنه ولا نصلي عليه ولا ندفنه في مقابر المسلمين.

أما التجسس بالفضول فصاحبه مرتكب ما يعتبر عيباً وعاراً، فيعزر، والتعزير عند جمهور الفقهاء يكون بعشر ضربات، وعند المالكية يصل التعزير إلى الموت إن رأى الحاكم ذلك لمصلحة الأمن العام.