للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (كم أهلكنا من قبلهم من قرن)]

وقال تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:٣].

هؤلاء الذين تعاظموا واعتزوا بأنفسهم، وكذبوا كتاب الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ألم يفكروا كم مضت قبلهم من قرون وأجيال؟ و (كم) هنا للتكثير، أي: ما أكثر أولئك من القرون الماضية والأجيال السابقة ممن كانوا أعظم منهم حضارةً وقوة، وأعظم منهم إرادة وحكماً وسلطاناً أين هم؟ قال تعالى: {فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:٣] عندما حل عليهم عذاب الله، وبلغت الروح الحلقوم، وأصبحوا تحت العذاب في الآخرة نادوا وتضرعوا ودعوا ربهم -وهيهات هيهات- قال تعالى: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:٣] أي: وليس الزمن زمن فرار، بل زمن ابتعاد عن عذاب الله وعقابه، وليس الوقت وقت إيمان، فقد سبق وقت الإيمان، وطولبوا بالإيمان وهم أحياء؛ ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يحثنا على أن ننتهز حياتنا قبل موتنا، وشبابنا قبل شيخوختنا، وصحتنا قبل مرضنا، وفراغنا قبل شغلنا، ومن لم ينتهز ذلك ولم يستفد منه كان كمن حارب السيف فغلبه، فالوقت كالسيف من لم يقطعه قطعه، فعندما أصبحوا في النيران وفي غضب الله أخذوا ينادون ويضرعون: يا مالك! ادع لنا ربك، ولكن هيهات هيهات، ألم تأتكم رسل الله بحدود الله، ألم يأمروكم بأمر الله؟ قالوا: بلى، وما دعاء الظالمين إلا في ضلال، وهكذا دواليك، ضلوا وأضلوا، ولم ينفعهم ذلك، فليس الوقت وقت دعاء ولا وقت ضراعة، لقد فات الوقت، وانتهت الحياة، وبقي حساب الله وعقابه جل جلاله.

قال ابن عباس رضي الله عنه: منذ مدة وأنا أحاول تفسير قوله تعالى: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:٣] ما معنى: مناص؟ إلى أن تعلمتها من طفل بدوي من الذين لا يزالون يتكلمون على الفطرة بطبيعة لغتهم وهي العربية الفصحى، فوجد طفلاً يلعب عند جحر النمل، ويسور هذا الجحر، يرفع عليه سوراً من رمل، فتريد النملة أن تخرج فيرفع السور من الرمل أكثر، ويقول للنمل: لا مناص لا مناص، أي: لا مفر لا مفر، فقلت: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:٣] أي: ولات حين مفر، فكان ابن عباس يذكر هذا ويقول: تعلمت هذا عن طفل بدوي أعرابي.

والأمر كما قال عليه الصلاة والسلام: (الحكمة ضالة المؤمن فأنى وجدها فهو أحق بها)، وقيل: (تعلموا العلم ولو في الصين) كتبت كتاباً في حياة مالك، وصدر منذ سنوات، وقلت فيه: إن أبا حنيفة قد روى عن مالك، فإذا بكاتب في صحيفة ومجلة سعودية مشهورة كتب مقالاً وأقام الدنيا ولم يقعدها وقال: كيف يقول فلان بأن أبا حنيفة وهو أسن من مالك قد روى عن مالك، وظن أن هذه مصيبة وبلية أصابت المسلمين، وكادت تسقط السماء وتخسف الأرض.

وقديماً قالوا: لا ينبل الرجل حتى يروي عمن هو فوقه ومن هو دونه ومن هو مثله، فكون أبي حنيفة روى عن مالك هذا لا ينقص مالكاً في شيء، ويبقى مكانه محفوظاً، وباب كبير في مصطلح الحديث عنوانه: باب رواية الأكابر عن الأصاغر، أي: الأكابر سناً وأحياناً الأكابر مقاماً، والنبي صلى الله عليه وسلم روى عن تميم الداري وهو على المنبر، وأين رسول الله من تميم؟! وقف على المنبر وقال: حدثني تميم بقصة الجساسة وهي قصة طويلة، وقال تميم وقال تميم، ولذلك علماؤنا ومحدثونا يبتدئون الأمثلة برواية الأكابر عن الأصاغر، وبرواية رسول الله عليه الصلاة والسلام عن تميم.

عندما رأيت الأمر وصل لهذا قلت: سيكون هناك شغب ولا فائدة، سيكون الجواب لا جواب، فلم أجب عليه، ولكن لم أفرغ في مناسبة لتصفح الكتاب مرة أخرى، فقد طبع ثلاث مرات.

فقوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:٣] أي: كم أهلك ربنا قبلهم، وكم للتكثير، فما أكثر من أهلك، وهم أعظم من قريش وأعظم من العرب قوة وملكاً وسلطاناً وغنىً وحضارة، ذهبوا وماتوا، ونتذكر أمثلة قد ملئ القرآن منها بالكثير الكثير، فهل ظن هؤلاء أنهم سيعجزوننا أن نؤدبهم أو أن ننتقم منهم ونعاقبهم.

وكونهم دعوا إلى الله وغرغروا بالموت فهيهات هيهات أن ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت، إذ لا مناص ولا مفر من عذاب الله وعقوبته، وليس الوقت وقت إيمان، قد فات وقته.