للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه)]

قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:٧].

معنى ذلك: أن أم موسى حملت بموسى تسعة أشهر كاملة، فعندما ولدت به وجدت نفسها عوضاً أن تُسر به لأنه ذكر كعادة الناس، فإن ولادة موسى كانت عليها خوفاً وهلعاً ورعباً، خاصة لما رأت من إشراق النور عليه فدخل حبه في قلبها أكثر من حب الأم للأطفال؛ لأن الله ألقى عليه محبته فلا يكاد يراه إنسان إلا أحبه ومن ذلك فرعون، ولولا ذلك لقتله ولما سمح لامرأته أن تتركه في البيت وأن تنشئه على فراشه ونعيمه.

فقوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) ظاهر كلمة أوحينا أن أم موسى نبية وأن الله أوحى لها، وهل تكون امرأة نبية؟ وسنجد أن الآية جمعت بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.

وجمهور المفسرين قالوا: لم يكن وحياً من جبريل إليها كما يوحى إلى الأنبياء ولكنه كان وحي إلهام، فقد أُلهمت أن تفعل ذلك.

ولكن المحققين من العلماء أبوا ذلك وقالوا: أيمكن للإنسان يوماً أن يأتي إلى وليده فيقتله أو يقذفه في البحر ويقول: أُلهمت أن أفعل ذلك؟! والإلقاء في اليم موت وقتل، ولن يكون هذا ولن يتم إلا بوحي من الله، وإلا لكانت صنعت شيئاً يتجاوز الخواطر، والخواطر قد تكون شيطانية وقلما تكون ملائكية.

ثم في الآية وعد من الله أنه سينقذه وأنه سيرد وليدها لها، وأن وليدها سيصبح نبياً رسولاً، وهل الإلهامات والخواطر تصل لهذه الدرجة من الصحة ومن الحقيقة ومن الوعد؟ وقد كان الأمر كذلك، فقد رد الله لها ولدها بأحسن عيش وأسعد حالة، ثم جُعل ولدها نبياً رسولاً سيداً من سادات الأنبياء ومن الخمسة أولي العزم.

فالذين قالوا إن ذلك إلهام لئلا تكون المرأة نبيةً، ونحن نقول: ذكر الله بأن الرسول لا يكون امرأة، أما أن تكون نبياً فلا مانع، فقد ذكر الله إيحاءه لـ حواء وامرأة إبراهيم، وهذا من ذاك.

وتعريف النبي في العقائد هو: عبد أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، فذاك مقصور عليها فلم يجعل لها سيادة على أحد ولا يدخل ذلك في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فهي لم تتول أمر أحد، ولم تكلف بهداية أحد، ولم تؤمر بتبليغ رسالة ولا بنزول كتاب عليها، وإنما هو شيء أوحاه الله إليها فكانت بذلك نبية بالوحي، فالأعمال التي قامت بها والوعود التي وعدت بها لا يكفي أن تكون إلهاماً، ولو قلنا هذا لفتحنا أبواباً، وقد ادعى ذلك بعض من أضلها الله وقالت: أوحي إلي، فعندما قلنا لها كيف أوحي إليك؟ قالت: كما أُوحي إلى حواء وإلى أم موسى وإلى امرأة إبراهيم وإلى أم عيسى.

قلنا لها: فماذا تقصدين بالوحي؟ قالت: الإلهام والخواطر، وهذا يضل فيه الإنسان، وقد يفعل الأفعال المخالفة للشريعة ويقول: أُلهمت وأوتيت خواطر ملائكية، فيضل الضال وينتشر البلاء، وهيهات هيهات أن نُعامل الإلهامات أو الخواطر معاملة الوحي! وهذه الآية الكريمة فيها أمران ونهيان وبشارتان وخبران، وهي بذلك من أبلغ آي الكتاب الكريم ومن أفصحها ومن أجمعها للكلم في ألفاظ قليلة.

((وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ)) هذا الأمر الأول، والأمر الثاني: ((فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)) أي: البحر، وهو نهر النيل.

والنهي الأول والثاني ((وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي)).

والخبر الأول والثاني ((إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)) أخبرها الله في وحيه أنه سيرده عليها ولن يهلك في البحر ولن يغرق، وأنه سيجعله من المرسلين، فهما خبران وبشارتان، فسّرت من أن وليدها سيعود إليها وسيكون نبياً رسولاً من أولي العزم.

فقوله تعالى: ((وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)) أرضعته إلى أن جرى حليبها ودر دره ولكنها مع ذلك خافت عليه الذبّاحين.

بل قالوا: دخل الذبّاحون وقوابل الأقباط عليها يريدون قتله فبادرت وجعلته في تابوت مغلق وقذفت به إلى اليم فلم يجدوا شيئاً ورأوا ثدييها يدر الحليب فقالت: أنا أرضع هارون منذ أشهر فقد ولدته في السنة التي كان فرعون لا يذبح فيها الأطفال فحليبي من وليدي، فوجدوا العلامات فتركوها.

فلما ألقته في نهر النيل كادت أن تُجن ويذهب عقلها كما سيصف الله لنا، ولم تعد تفكّر إلا في الوليد الذي زاد حبه بقلبها كسائر الأولاد، ولكنه زاد لما رأت على جبينه من إشراق ومن نور وما بُشّرت به من الحضرة الإلهية أنه سيكون له شأن وسيكون نبياً ورسولاً من أولي العزم من الرسل، ولا تخافي من إلقاءه في اليم أن يغرق أو أن يختنق أو أن يموت، ولا تحزني على فراقه فإنه سيفارقك يوماً أو يومين أو أقل وسيعود وليدك إليك علناً، وسترضعينه بعز وشرف وستأخذين أجرة على إرضاع ولدك، وبعد ذلك عندما يكبر ويبلغ الأشد ويستوي في عمره وجسمه وعقله سيكون رسولاً نبياً.