للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل)]

قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر:٢٧ - ٢٨].

يقول الله لنا ونحن لا نزال في الحياة لنستدرك ما فاتنا أو فات بعضنا ليزداد المؤمن إيماناً، وليعود المنافق والكافر عن كفره وعن نفاقه إلى الإيمان: ((وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)) كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:٣٨].

فقد ضرب الله في كتابه الكريم أمثالاً للناس، والأمثال: التشابيه، ضرب لهم ما رأته أعينهم وسمعته آذانهم، ليأخذوا الغائب ويقيسوه على الحاضر، فيفهم الحقيقة كل حسب إيمانه وحسب وعيه وفهمه.

فقوله: ((وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)) أي: أتينا بالأمثال نشبه بها، ونظهر بها المعاني التي دعوناهم إليها من توحيد وإيمان وتصديق رسل وعبادة وطاعة مدة حياتهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} [الزمر:٢١] فذاك مثل للحياة ومثل للممات بما نراه ونعيشه مدة حياتنا.

وكذلك فعل النبي عليه الصلاة والسلام في بيانه وتفسيره وحكمته ودعوته، حتى إن بعض العلماء من السلف جمع لرسول الله عليه الصلاة والسلام ألف مثل في كتاب مستقل، وكما فسرت أمثال القرآن في كتاب مستقل من غير واحد من علماء التفسير.

قوله: ((لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)) أي: يتذكرون قرآناً عربياً غير ذي عوج.

أي: ((لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)) هذا القرآن ولا يدعوه منسياً وراء ظهورهم، بل يتفكرون في أخباره وعقائده وإعجازه وبيانه وفصاحته، وفيما قص الله علينا من خبر الأمم السابقة مع الأنبياء السابقين، كذلك الكتب المنزلة عليهم لنأخذ عبرة وعقيدة، وليزداد إيماننا وتقوانا وعبادتنا.

قوله: ((قُرآنًا عَرَبِيًّا)) أي: نزل بلغة العرب وفسر بلغة العرب، جاء على قواعدهم وبلغتهم وبلاغتهم، وجاء ببديع المعاني التي عرفت بها لغة العرب.

وكان ذلك من اختيار الله للغة العربية من بين اللغات التي نطق بها خلقه، فكانت أشرف اللغات لاختيار الله لها لأشرف أمة اختارها الله تعالى أن تكون أمة الهادي وخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، ولذلك نزل القرآن على سيد العرب بلغته وبلغة قومه، فلم يجدوا مشقة في فهمه؛ لأنه نزل باللغة التي يتحدثون بها، فهموا دواخله وبواطنه وظواهره، وفهموا أمثاله واستعاراته، فآمن من آمن، إلى أن تجمعوا مهاجرين وأنصاراً، ففهموا عن الله كتابه وعن رسول الله بيانه، وذهب المصطفى إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم، وكانت الجزيرة قد تم إيمانها وإسلامها واستسلامها لكتاب الله ولدينه.

فأصبح العرب بعد ذلك رسل رسول الله إلى الناس كافة، فخرجوا عن هذه الجزيرة يحملون بيد كتاب الله وباليد الأخرى السيف، فالكتاب لمن سمع ووعى وأدرك وتلقى حقائقه، والسيف لمن عارض دعوة الله.

ووقف في وجه الدعاة إلى الله، ابتداء من أبي بكر الخليفة الأول رضوان الله عليه، إلى أن ألقى الإسلام بجرانه أيام عمر، فتوفي أبو بكر يوم توفي وجيوشه على أبواب أرض الشام، وإذا بـ عمر يأتي فيضم إلى للإسلام بلاد الشام والعراق ومصر وأرض فارس والمغرب الأدنى.

وهكذا تتالت الفتوحات، وكان الدافع لذلك هم هؤلاء الذين نزل القرآن بلغتهم.

أما الترجمة اليوم التي يدعيها الكثير من الناس ويبذلون فيها مالاً ويظنون أنهم فعلوا خيراً فهي بدعة لا خير فيها، إذ خرج الإسلام بلغة العرب وبدعاة من العرب إلى البلاد الفارسية والرومية والقبطية والبربرية، وما إلى ذلك من بقية أجناس الأرض، فلم يدخل أحد منهم ينشر الإسلام بلغته، ولذلك ما مضى الجيل الأول حتى جاء الجيل الثاني وهو يتكلم لغة العرب كنطق العرب أنفسهم.

فكان من غير العرب من أتقن لغة العرب ونشرها وعلمها، كالإمام سيبويه سيد النحاة على الإطلاق وهو فارسي، وأكثر علماء الفقه والحديث والتفسير، والكثير الكثير من علماء اللغة.

خرج الصدر الأول ونشروا القرآن بلغته؛ لأن الله وصفه في غير ما آية: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف:٢]، {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [طه:١١٣] فالترجمة قبل أن نقول حلال أو حرام، هي غير معقولة بل مستحيلة، وطالما جربنا وجرب غيرنا، مثلاً: القرآن الآن مترجم إلى لغات إسلامية غير عربية وإلى لغات كافرة، ترجم للغة الفرنسية عدة مرات، وللتركية عدة مرات، وللأوردية عدة مرات، ولو جمعت هذه التراجم فإنك لا تجد ترجمة تشبه الترجمة الأخرى.

فإذا أخذ الإنسان يقول: أنا أقرأ القرآن بالتركية، وأقرأ القرآن بالفرنسية، فإنك تجد هذه الترجمة ترجع لفهم المترجم وحسب دينه وسعة علمه، فلذلك كثيراً ما يخطئ عن قصد أو عن غير قصد، نأخذ على سبيل المثال: قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:٢٢] هذه في لغة العرب مفهومة، إذ تأتي الرياح فتهب على الأشجار فتصبح الأشجار ذات براعم، ثم تصبح البراعم أزهاراً، فتهز الرياح الأزهار، فيتنقل من شجرة لشجرة ومن برعم لبرعم، وتأتي النحلة فتقف على هذه الزهرة، ثم تنتقل إلى زهرة ثانية تحمل في أرجلها اللقاح، وهذا اللقاح يكون كاللقاح الذي يحدث من الذكر للأنثى، فكيف يترجم إلى لغة أخرى؟! فقوله: ((وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ))، أتكون هذه ترجمته؟ زوجنا الرياح بالشجر فتلقح، ولذلك فإن هذه التراجم عندما تقرؤها تجدها على غاية من الركاكة.

فأنت تجد كثيراً من الآيات قد فسرت بالعربية عن طريق أئمة كبار، ومع ذلك تجدهم يختلفون في الترجيح، لكن يبقى التفسير تفسيراً وكلام الله هو كلامه، فيقولون: إن أخطأنا فمن أنفسنا، وإن أصبنا فمن الله.

أما المترجم فيأتي بكلامه الذي ترجمه ويظن أن الله قد قال ذلك، وهذا كذب على الله وافتراء عليه، فتراه يحرف عن قصد أو عن غير قصد، ولذلك فإن الترجمة مستحيلة ولم يكن هذا عمل السلف، ولو صرف المال في تعليم اللغة العربية وبثها بين الناس لكان خيراً من الترجمة، وخاصة الشعوب الإسلامية التي لغة العرب في حقها واجبة؛ لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم.

وما لا يتأتى الواجب إلا به فهو واجب، وتعلم كتاب الله واجب، وتعلم سنة رسول الله واجب، وتعلم الفقه واجب، وتعلم لغة العرب التي لا يجيء فهم كتاب ولا سنة ولا فقه إلا بها واجب.

ومن هنا نجد الكثير من الزعماء الإسلاميين غير العرب ممن يجهلون العربية يخطئون أخطاء -فيما يزعمونه تفسيراً أو شرحاً للسنة- تخرجهم أحياناً عن الإسلام جهلاً وعدم فهم وهم لا يقصدون ذلك.

فنحن قد كرسنا اللغات الأخرى وضيقنا اللغة العربية ولم يكن هذا عمل السلف، فقد دخل الإسلام الشام ولم تكن عربية، كانت لغتهم رومية، ودخل الإسلام العراق وكانت لغتها فارسية واختفت اللغتان.

ودخل الإسلام مصر وكانت لغتها قبطية، ودخل الإسلام المغرب وكانت لغته بربرية، فهذه الأقطار منذ دخلها الإسلام ودخلها العرب الفاتحون الأول أصبحت أجزاء من أرض العرب والمسلمين.

وقال ابن بطوطة الرحالة المغربي: وكان لغة العرب في القرن الثامن لغة جميع سكان الأرض من المسلمين يتكلمون بها، وإن لم يتكلم بها البعض فهو لجهله.

فـ ابن بطوطة تجول في أرض المسلمين بالخصوص نحو ثلاثين عاماً، فسميت رحلته المشهورة برحلة ابن بطوطة، ولم يكن يعرف إلا العربية، وهو من صنجة من المغرب، فجال الأرض مشارقها ومغاربها ولم يكن محتاجاً إلى غير لغته التي يتكلم بها، فكانت مقروءة ومفهومة وبها يتفاهم مع غيره.

وتولى الإمارة والقضاء، وتولى أعلى المناصب في هذه الأقطار التي ذهب إليها، ولم يحتج إلى لغة أخرى غير لغته فقط.

فـ ابن بطوطة لا يتكلم إلا العربية ولم يحتج لسواها، تجول وولِّي وحكم وقضى في جميع الأقطار الإسلامية، ولكن عندما جاءت وثنية الوطنية ووثنية القومية أخذوا يعلمونهم أن الفارسي يجب وطنيةً أو قوميةً أن يتعلم لغة قومه، وهكذا قالوا لفلان ولفلان وللشعوب الأخرى، مع أن فارس نفسها منذ مائة عام كانت تتكلم العربية كلها، وكانت تكتب هذه اللهجات بأحرف العربية، بعد الاستقلال مسخوا، فكانوا أقبح من الاستعماريين القدامى؛ فقد ألغوا الحرف العربي ووضعوا مكانه الحرف اللاتيني.

وبهذا تحرفت القراءة وتغيرت، وعندما تقرؤها بالحروف اللاتينية تكون الحركات من ضمة وفتحة وكسرة والمدود متغيرة، وتقرأ العربية وأنت عربي بالحرف اللاتيني وكأنك فرنسي أعجمي، وكأنك ما عشت عربياً يوماً ولا قرأت العربية.

فقوله: ((قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)) أي: لا اعوجاج فيه، ولا اختلاف فيه ولا لحن ولا اضطراب، ولا كلام يلغي كلاماً آخر أو يخالفه أو ينازعه، وهذا من تمام الإعجاز، إذ كله متناسق في المعاني العلوية والسفلية، وكله جاء بحق وصدق في أخبار الأمم الماضية والأمم اللاحقة وعقائدهم.

فلا تجد فيه لحناً ولا تغييراً، ولا يقال فيه: هذا خالف لغة العرب؛ ولهذا فإن الكثير من اللغويين والنحاة فسروا القرآن الكريم بالعربية والنحو فقط، ولم يهتموا بسوى ذلك، وقد أفادوا جداً.

قال تعالى: ((لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) فهؤلاء أنزل إليهم القرآن لعلهم يتقون الله، ويخافونه، ويتقونه في العمل بأمره، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتقونه في ترك المحارم، ويتقونه في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.