للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

معنى قوله تعالى: (وجاهدهم به جهاداً كبيراً)

يقول تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان:٥٢] في كل ما يقولونه لك بخلاف ما أوحيناه إليك وأنزلناه عليك، {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:٥٢] أي: جاهد الكفار بهذا القرآن، واجعل القرآن أداة جهادك، وأداة كفاحك، وأداة حربك، فحرّم حرامه، وأحل حلاله، والتزم أوامره فالقرآن يأمرك بأن تجاهد الكفار وتُقاتلهم حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ولا تتأخر في ذلك، وأجر على المسلمين حدوده من قطع ورجم وجلد وغير ذلك، وحكّم فيهم كتاب الله، فمن خرج عنه من الكفار فليس له إلا السيف بعد ذلك، فإن أبى إلا الكفر والإصرار على الكفر فلا إكراه في الدين، وحينئذ لابد من أن يُعطي الجزية عن يد وهو صاغر، فيعيش ذليلاً، كما قال عمر: (أذلّوهم ولا تظلموهم).

يعني: أهل الذمة.

فالله أمر نبيه ويأمر أتباعه تبعاً له عليه الصلاة والسلام بأن يكون القرآن أداة للجهاد، فعلى أساسه يكون الأمر والنهي والحرب والدعوة، وعلى أساسه تكون الحضارة، وعلى أساسه يكون المكسب، وتكون الدولة، ويكون التعليم، ويكون المجتمع، فإذا خرج الناس عن ذاك فإن كانوا مسلمين فمعناه أنهم ارتدوا، وإن كانوا كافرين فلا يجوز أن تُبقيهم على ذلك.

أما المرتد فليس له إلا مراجعة الإسلام أو القتل، وهذا هو الذي حصل عندما مات النبي عليه الصلاة والسلام وذهب إلى الرفيق الأعلى، وولي الخلافة أبو بكر الصديق، فقد ارتد قوم في أول خلافته، وامتنع قوم عن أداء الزكاة، فذهب ينفذ قوله تعالى لنبيه: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان:٥٢]، فذهب يجاهد بالقرآن، فجاهد المرتدين إلى أن عادوا إلى الإسلام ومات من مات منهم على الكفر، وجاهد الممتنعين عن الزكاة إلى أن أدوا الزكاة صاغرين راغمين، وبعد تمام ذلك جمعهم وأخرجهم عن حدود البلاد لنشر الإسلام في خارج جزيرة العرب في أرض فارس وأرض الروم.

ثم جاء عمر الفاروق فتمم المهمة، وقد كانت خلافته عشر سنوات، فما كاد يموت رضوان الله عليه حتى ضم بلاداً كثيرة إلى الرقعة الإسلامية، فهدى الناس إلى ربهم، وأما القتال الذي لا يكون للقرآن ولا لإعلاء كلمة الله، بل لوطنية وثنية، أو لقومية وثنية؛ فليس بجهاد، وليس هو إلا نزاعاً دنيوياً على مناصب وعلى أموال، وقد جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام من سأله عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليرى مكانه، ويقاتل لإعلاء كلمة الله، فأي ذلك في سبيل الله؟! قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، أما من قاتل للدنيا فإنه إن حصل عليها فله ما حصله، وإن لم يحصّل عليها فقد خسر دينه ودنياه، والأعمال بالنيات، وقد وجد من هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مسلم، وكان في ظاهر أمره أنه هاجر رغبة في دين الله، وابتعاداً عن أرض الكفر، إذ كانت مكة لم تحرر بعد، حيث كانت في وثنية وجاهلية، فعلم النبي بحال هذا المهاجر، وكان النبي عليه الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله على غاية ما يكون من اللطف والنبل، فلا يفضح أحداً، ولا يشوه ويشهّر بأحد، فلا يقول: يا فلان! لم فعلت كذا وكذا؟! ولكن يقول وهو في المجلس: ما بال أقوام يقولون؟ وما بال أقوام يفعلون؟ ومن فعل أو قال ذلك علم أنه المقصود، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).

وكان الذين هاجروا إلى المدينة قد خرج بعضهم مع المهاجرين للزواج، وخرج بعضهم للتجارة، فليس لهم إلا ما خرجوا له إن حصلوه، وأما الهجرة لله فليست نيتهم، وإذا لم تكن هناك نية فليس هناك أجر ولا ثواب.

يقول تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:٥٢]، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:٣٦]، والقتال فرض على كل مسلم ومسلمة فيما إذا هجم العدو على ديار الإسلام، وكان العدو على رمي حجرة منا، كما هو حال اليهود في فلسطين، فحمل السلاح والقتال في هذه الساعة فرض على كل قادر على حمل السلاح، فإن لم نفعل أثمنا جميعاً، ومن هنا ذل المسلمون على كثرة أموالهم وسعة أرضهم، وفي الحديث: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا)، فإذا جاء العدو إلى جزء من الأرض الإسلامية واستولى عليه فالجهاد العيني يجب على من جاوره، فإن استطاعوا قتاله فذاك، وإلا فيجب على من يليهم إلى أن يجب على كل المسلمين.

فالعدو اليوم قد استباح حرمات الله، وأخذ المسجد الفاضل الثالث، والمسلمون يذلون، ويقتّلون، وتُهتك أعراضهم، وتُزهق أرواحهم، وتسيل الدماء منهم أنهاراً، وإخوانهم المسلمون ينظرون، وذلك هو البلاء، وذلك هو الخزي والعار، ويوشك أن يزيد الله في البلاء والمحنة إذا بقي المسلمون على هذه الحالة.