فقال: الرطب، فبينما هم في الحديث، إِذ وصلت بغال البريد، عليها الحقائب، وفيها الألطاف، فقال لخادم له: انظر إِن كان في هذه الألطاف رطب، فمضى وعاد ومعه سلتان فيهما رطب من أطيب ما يكون، فشكر الله تعالى، وتعجبنا جميعاً، وأكل وأكلنا من ذلك الرطب، وشربنا عليه من ذلك الماء، فما قام منا أحد إِلا وهو محموم، ولم يزل المعتصم مريضاً حتى دخل العراق، ولما مرض المأمون، أوصى إِلى أخيه المعتصم، بحضرة ابنه العباس، بتقوى الله تعالى، وحسن سياسة الرعية، في كلام حسن طويل، ثم قال للمعتصم: عليك عهد الله وميثاقه، وذمة رسوله، لتقومن بحق الله في عباده ولتؤثرن طاعة الله على معصيته، إِذا أنا نقلتها من غيرك إِليك. قال: اللهم نعم. ثم قال: هؤلاء بنو عمك ولد أمير المؤمنين علي، صلوات الله عليه، أحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، ولا تغفل صلاتهم في كل سنة، عند محلها، وتوفي المأمون في هذه السنة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب، وحمله ابنه العباس وأخوه المعتصم إِلى طرسوس، فدفناه بدار جلعان خادم الرشيد، وصلى عليه المعتصم، وكانت خلافة المأمون عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوماً سوى أيام دعي له بالخلافة، وأخوه الأمين محصور ببغداد، وكان مولده للنصف منٍ ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وكانت كنيته أبا العباس، وكان ربعة، أبيض جميلا طويل اللحية رقيقها، قد وخطه الشيب، وقيل كان أسمر، أحنى، أعين، ضيق الجبهة، بخده خال أسود.
بعض سيرته وأخباره لما كان المأمون بدمشق، قل المال الذي صحبته، حتى ضاق وشكى ذلك إِلى المعتصم، فقال له يا أمير المؤمنين: كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعة، وحمل إِليه المعتصم ثلاثين ألف ألف ألف، من خراج ما يتولاه له، فلما ورد ذلك، قال المأمون ليحيى بن أكتم: اخرج بنا ننظر إِلى هذا المال فخرجا ونظرا إِليه، وقد هيئ بأحسن هيئة، وحليت أباعره، فاستكثر المأمون ذلك، واستحسنه، واستبشر به الناس، والناس ينظرون ويتعجبون، فقال المأمون: يا أبا محمد، ننصرف بالمال، ويرجع أصحابنا خائبين. إِن هذا للؤم، فدعا محمد بن رداد، فقال له: وقع لآل فلان بألف ألف ولآل فلان بمثلها، فما زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف ألف؛ ورجله في الركاب، وكان المأمون ينظم الشعر، فما يروى له من أبيات:
بعثتك مرتاداً ففزتَ بنظرة ... وأغفلتني حتى أسأتُ بك الظنّا
فناجيت من أهوى وكنت مباعداً ... فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى
أرى أثراً منها بعينيك بيْنا ... لقد أخذت عيناكَ من عينها حُسنا
وكان المأمون شديد الميل إِلى العلويين، والإحسان إِليهم رحمه الله تعالى، ورد فدك على ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلمها إِلى محمد ابن يحيى بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ليفرقها على مستحقيها من ولد فاطمة، وكان المأمون فاضلاً مشاركاً في علوم كثيرة.