فأجابه إلى ذلك، وكان قيس بن سعد بن عبادة متولياً على مصر من جهة علي، على ما ذكرناه، فقد اعتزل عنه جماعة عثمانية إِلى قرية من بلد مصر يقال لها خربتا، وكان قيس المذكور من دهاة العرب، فرأى من المصلحة مداهنة المذكورين، وكف الحرب عنهم لئلا ينضموا إِلى معاوية، وكتب معاوية إِلى قيس المذكور يستميله، ويبذل له الولايات العظام، فلم يفد فيه، فزور عليه معاوية كتاباً وقرأه على الناس، يوهمهم أن قيساً معه، ولذلك لم يقاتل المعتزلين عنه بخربتا، فبلغ علياً ذلك، فعزل قيساً عن مصر؛ وولى عليها محمد بن أبي بكر، ولحق قيس بالمدينة، ثم وصل إِلى علي وحضر معه حرب صفين، وحكى لعلي ما جرى له مع معاوية، فعلم صحة ذلك، وبقي قيس المذكور مع علي ثم مع الحسن على ذلك، إِلى أن سلم الأمر إِلى معاوية، وأما محمد بن أبي بكر، فوصل إلى مصر وتولى عليها، ووصاه قيس في أنه لا يتعرض إِلى أهل خربتا، فلم يقبل محمد ذلك، وبعث إلى أهل خربتا يأمرهم بالدخول في بيعة علي، أو الخروج من أرض مصر، فأجابوه أن لا نفعل، ودعنا ننظر إلى ما يصير إِليه أمرنا، فأبى عليهم.
[وقعة صفين]
ولما قدم عمرو على معاوية كما ذكرنا واتفقا على حرب علي، قدم جرير بن عبد الله البجلي على علي، فأعلمه بذلك، فسار علي من الكوفة إِلى جهة معاوية، وقدم عليه عبد الله بن عباس ومن معه من أهل البصرة، فقال علي رضي الله عنه:
لأصبحن العاص وابن العاصي ... سبعين ألفاً عاقدي النواصي
مجنبين الخيل بالقلاص ... مستحقبين حلق الدلاص
وحدا بعلي نابغة بني جعد الشاعر فقال:
قد علم المصران والعراق ... أن علياً فحْلها العتاقُ
أبيض جحجاح له رواقَ ... إِن الأولى جاروك لا أفاقوا
لكم سباق ولهم سباق ... قد سلمتْ ذلكم الرفاق
وسار عمر ومعاوية من دمشق بأهل الشام إِلى جهة علي، وتأنى معاوية في مسيره، حتى اجتمعت الجموع بصفين، وخرجت سنة ست وثلاثين والأمر على ذلك.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين والجيشان بصفين، ومضى المحرم ولم يكن بينهم قتال، بل مراسلات يطول ذكرها، لم ينتظم بها أمر، ولما دخل صفر وقع بينهما القتال فيه، وكانت بينهم وقعات كثيرة بصفين، قيل كانت تسعين وقعة، وكان مدة مقامهم بصفين مائة وعشرة أيام، وكانت عدة القتلى بصفين من أهل الشام خمسة وأربعين ألفاً، ومن أهل العراق خمسة وعشرين ألفاً، منهم ستة وعشرون رجلا من أهل بدر، وكان علي قد تقدم إِلى أصحابه أن لا يقاتلوهم حتى يبدؤوا بالقتال، وأن لا يقتلوا مدبراً وألا يأخذوا شيئاً من أموالهم وأن لا يكشفوا عورة. قال معاوية، أردت الانهزام بصفين،