في يوم الاثنين، ثاني ذي الحجة، الموافق لرابع عشر كانون الثاني وأحرم من رابغ وسار منها في يوم الثلاثاء غد النهار المذكور. واتفق من جملة سعادته وتأييده طيب الوقت، فإنه كان في وسط الأربعينيات، ولم نجد برداً نشكو منه مدة الإحرام، وسار حتى دخل مكة بكرة السبت سابع ذي الحجة، ثم سار إلى منى، ثم إلى مسجد إبراهيم، وأقام هناك حتى صلى به الظهر وجمع إليها العصر، ووقف بعرفات راكباً تجاه الصخرات في يوم الاثنين، ثم أفاض وقدم إلى منى وأكمل مناسك حجه، وكان في خدمته القاضي بدر الدين جماعة قاضي قضاة ديار مصر الشافعي، وواظب المسلطان في جميع أوقات المناسك، بحيث إن السلطان حافظ على الأركان والواجبات والسنن، محافظة لم أرها من أحد، ولما كمل مناسك حجه، سار عائداً إلى مقر ملكه بالديار المصرية. وخرجت هذه السنة، أعني سنة تسع عشرة، وهو بين ينبع وإيلة، بمنزلة يقال لها القصب، وهي إلى إيلة أقرب. ولقد شاهدت من جزيل صدقاته في هذه الحجة ما لم أقدر أن أحصره، وإنما أذكر نبذة منه، وهو أنه سار في خدمته ما يزيد على ستين أمير أصحاب طبلخانات، وكان لكل منهم في كل يوم في الذهاب والإياب ما يكفيه، من عليف الخيل والماء والحلوى والسكر والبقسماط، وكذلك لجميع العسكر الذين ساروا في خدمته، وكان يفرق فيهم في كل يوم في تلك المفاوز وغيرها، ما يقارب أربعة آلاف عليفة شعير، ومن البقسماط الحلوى والسكر ما يناسب ذلك، وكان في جملة ما كان في الصحبة الشريفة أربعون جملاً تحمل محاير الخضراوات مزروعة، وكان في كل منزلة يحصد من تلك الخضراوات ما يقدم صحبة الطعام بين يديه، وفرق في منزلة رابغ على جميع من في الصحبة من الأمراء والأجناد وغيرهم، جملاً عظيمة من الدراهم، بحيث كان أقل نصيب فرق في الأجناد ثلاثمائة درهم، وما فوق ذلك إلى خمسمائة درهم، ونصيب أمراء العشرات ثلاثة آلاف درهم؛ وأما الأمراء أصحاب الطبلخانات فوصل بعضهم بعشرين ألف درهم؛ وبعضهم بأقل من ذلك؛ فكان شيئاً كثيراً، وأما التشاريف فأكثر من أن تحصر، ثم كان ما سنذكره في سنة عشرين وسبعمائة إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة عشرين وسبعمائة.
[ذكر قدوم السلطان إلى مقر ملكه]
استهل السلطان غرة المحرم من هذه السنة في القصب، وهي منزلة عن إيلة على تقدير أربعة مراحل، وسار السلطان منها ونزل بإيلة، وأقام بها ثلاثة أيام ينتظر وصول خيل وخزانة كانت له بالكرك، وبعد وصول ذلك، رحل السلطان وسار حتى دخل قلعة الجبل، بكرة نهار السبت، ثاني عشر المحرم من هذه السنة، الموافق للثالث والعشرين من شباط، وكان يوم دخوله يوماً مشهوداً ركب جميع الجيش وقبلوا الأرض بين يديه، ولما صار