رأيه، فجمع أولي العلم الذين كانوا ببغداد، منهم قاضي القضاة بشر بن الوليد الكندي، ومقاتل، وأحمد بن حنبل، وقتيبة، وعلي بن الجعد وغيرهم. وقرأ عليهم كتاب المأمون، ثم قال لبشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟ فقال بشر: القرآن كلام الله. قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء. قال: والقرآن شيء؟ قال: نعم. قال: مخلوق هو؟ قال: ليس بخالق. قال: ليس عن هذا أسألك، أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك. فقال إسحاق للكاتب: اكتب ما قال. ثم سأل غيره وغيره، فيجيبون قريباً مما أجاب به بشر.
ثم قال لأحمد بن حنبل: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله. قال: أمخلوق هو؟ قال: كلام الله ما أزيد عليها. ثم قال له: ما معنى قوله سميع بصير؟ قال أحمد: هو كما وصف نفسه، قال: فما معناه؟ قال: لا أدري، هو كما وصف نفسه.
ثم سأل قتيبة، وعبيد الله بن محمد، وعبد المنعم بن إِدريس ابن بنت وهب بن منبه، وجماعة معهم، فأجابوا أنّ القرآن مجعول لقوله تعالى " إِنا جعلناه قرآناً عربياً "" الزخرف: ٣ " والقرآن محدث لقوله تعالى " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث "" الأنبياء: ٢ " قال إسحاق: فالمجعول مخلوق، قالوا: نعم. قال فالقرآن مخلوق؟ قالوا: لا نقول مخلوق، ولكن مجعول.
فكتب مقالتهم، ومقالة غيرهم، رجلاً رجلا، ووجهت إِلى المأمون، فورد جواب المأمون إِلى إِسحاق بن إبراهيم، أن يحضر قاضي القضاة بشر بن الوليد، وإبراهيم بن المهدي، فإن قالا بخلق القرآن وإلا تضرب أعناقهما، وأما من سواهما، فمن لم يقل بخلق القرآن، يوثقه بالحديد، ويحمله إلي فجمعهم إسحاق، وعرض عليهم ما أمر به المأمون، فقال بشر وإبراهيم وجميع الذين أحضروا لذلك؛ بخلق القرآن، إلا أربعة نفر، وهم أحمد بن حنبل، والقواريري، وسجادة، ومحمد بن نوح المصروب، فإنهم لم يقولوا بخلق القرآن فأمر بهم إِسحاق، فشدوا في الحديد، ثم سألهم، فأجاب سجادة والقواريري إلى القول بخلق القرآن، فأطلقهما، وأصر أحمد ابن حنبل ومحمد بن نوح المصروب على قولهما؛ فوجههما إلى طرسوس، ثم ورد كتاب المأمون يقول: بلغني أن بشر بن الوليد، وجماعة معه، إِنما أجابوا بتأويل الآية التي أنزلها الله تعالى في عمار بن ياسر " إِلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان "" النحل: ١٠٦ " وقد أخطؤوا التأويل، فإِن الله تعالى عنى بهذه الآية، من كان معتقداً للإيمان، مظهراً للشرك، فأما من كان معتقداً للشرك، مظهراً للإيمان. فليس هذا له، فأشخصهم إِلى طرسوس ليقيموا بها، إلى أن يخرج أمير المؤمنين من بلاد الروم، فأمسكهم إِسحاق وأرسلهم، فلما صاروا إِلى الرقة، بلغهم موت المأمون فرجعوا إِلى بغداد.
مرض المأمون وموته
[رحمه الله تعالى]
في هذه السنة، أعني سنة ثماني عشرة ومائتين، مرض المأمون لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة، وكان سببه ما حكاه سعيد بن العلاف قال: دعاني المأمون، وهو وأخوه المعتصم جالسان على شاطئ نهر البدندون، وقد وضعا أرجلهما في الماء، فقال لي: أي شيء يؤكل ليشرب عليه من هذا الماء، الذي هو في نهاية الصفاء والعذوبة؟ قال: أمير المؤمنين أعلم،