فلما انتشر ذلك عنك وعنهم، عظمهم الناس وهابوهم، فكان أول من صانعهم عملك، بالهدايا، ليتقووا بهم على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذو القدرة والثروة من رعيتك، لينالوا به ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلماً وفساداً، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل، فإن جاء متظلم، حيل بينه وبين الدخول إِليك، فإن أراد رفع قصة إِليك، وجدك قد منعت من ذلك، وجعلت رجلاً ينظر في المظالم، فلا يزال المظلوم يختلف إِليه، وهو يدافعه خوفاً من بطانتك، فإذا صرخ بين يديك، ضرب ضرباً شديداً، ليكون نكالاً لغيره، وأنت تنظر ولا تنكر فما بقاء الإسلام على هذا، فإِن قلت إِنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله في الطفل يسقط من بطن أمه وماله في الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحوبه، فما يزال الله يلطف بذلك الطفل، حتى يعظم رغبة الناس إِليه، ولست الذي يعطي، وإنما الله عز وجلّ يعطي من يشاء بغير حساب، وإن قلت إِنما أجمع المال لتسديد الملك وتقويته، فقد أراك الله في بني أمية ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة، وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع، حين أراد الله تعالى لهم ما أراد، وإن قلت إِنما أجمعه لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فو الله ما فوق الذي أنت فيه منزلةً، إِلا منزلةً ما تنال إِلا بخلاف ما أنت عليه.
أولاده وهم المهدي محمد، وجعفر الأكبر، مات في حياة أبيه المنصور، ومنهم سليمان وعيسى ويعقوب وجعفر الأصغر وصالح المسكين، وكان المنصور أحسن الناس خلقاً في الخلوة حتى يخرج إِلى الناس.
[خلافة المهدي]
محمد بن المنصور، وهو ثالثهم، ووصل إِليه الخبر بموت أبيه، وبالبيعة له، في منتصف ذي الحجة لأن القاصد وصل من مكة إِلى بغداد، في أحد عشر يوماً، فباد أهل بغداد.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائة وسنة ستين ومائة فيها أمر المهدي برد نسب آل زياد، الذي استلحقه معاوية بن أبي سفيان، إِلى عبيد الرومي، وأخرجهم من قريش، فأخرجوا من ديوان قريش والعرب، وردوهم إِلى ثقيف. وفيها حج المهدي، وفرق في الناس أموالاً عظيمة، ووسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمل الثلج إِلى مكة.
وفيها مات داود الطائي الزاهد، وكان من أصحاب أبي حنيفة، وعبد الرحمن ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود المسعودي، وفيها توفي الخليل بن أحمد البصري النحوي أستاذ سيبويه.
ثم دخلت سنة إِحدى وستين ومائة فيها أمر المهدي باتخاذ المصانع في طريق مكة وبتجديد الأميال والبرك وبحفر الركايا، وبتقصير المنابر في البلاد وجعلها بمقدار منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيها جعل المهدي يحيى بن خالد بن برمك مع ابنه هارون، وجعل مع الهادي أبان بن صدقة،