ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة: فيها مات الأوزاعي الفقيه، واسمه: عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد، وعمره سبعون سنة، وكنيته أبو عمرو، وكان يسكن بيوت، وبها توفي، وكانت ولادته ببعلبك سنة ثمان وثمانين للهجرة، وكان يخضب بالحناء، وكان إمام أهل الشام، قيل إِنه أجاب في سبعين ألف مسألة وقبره في قرية على باب بيروت يقال لها خنتوس، وأهل القرية لا يعرفونه، بل يقولون هاهنا رجل صالح.
والأوزاعي منصوب إِلى أوزاع وهي بطن من ذي كلاع، وقيل بطن من همذان، وجده يحمد، بضم الياء المثناة من تحتها، وسكون الحاء المهملة وكسر الميم، وبعدها دال مهملة.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة وفاة المنصور
وهو المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكانت وفاته في هذه السنة، لست خلون من ذي الحجة، ببئر ميمونة وكان قد خرج من بغداد لحج، فسار معه ابنه المهدي، فقال له المنصور: إِني ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة، وهذا هو الذي حداني على الحج، فاتق الله فيما عهد إِليك من أمور المسلمين بعدي، ووصاه وصية طويلة، ثم ودعه وبكيا، ثم سار إِلى الحج، ومات ببئر ميمونة محرماً، في التاريخ المذكور، وكان مرضه القيام، وكان عمره ثلاثاً وستين سنة، وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة وثلاثة أشهر وكسراً.
وكان المنصور أسمر نحيفاً خفيف العارضين، ولد بالحميمة من أرض الشراة، ودفن بمقابر بابه المعلى وبقي أثر الإحرام، فدفن ورأسه مكشوف، ومما يحكى عنه فيما جرى له في حجه، قيل: بينما الخليفة المنصور يطوف بالكعبة ليلاً، إِذ سمع قائلاً يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع، فخرج المنصور إلى ناحية من المسجد، ودعا القائل وسأله عن قوله، فقال له: يا أمير المؤمنين إن أمنتني أنبأتك بالأمور على جليتها وأصولها، فأمنه. فقال: إن الذي دخله الطمع حتى حال، بين الحق وأهله، هو أنت يا أمير المؤمنين فقال المنصور: ويحك وكيف يدخلني الطمع، والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟ فقال الرجل: لأن الله تعالى استرعاك المسلمين وأموالهم، فجعلت بينك وبينهم حجاباً من الجص والآجر، وأبواباً من الحديد، وحجاباً معهم الأسلحة، وأمرتهم أن لا يدخل عليك إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإِيصال المظلوم والملهوف، ولا الجائع والعاري، ولا الضعيف والفقير، وما أحد إلا وله من هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذي استخلصتهم لنفسك، وأثرتهم على رعيتك، تجبي الأموال فلا تعطيها، وتجمعها ولا تقسمها، قالوا: هذا قد خان الله تعالى، فما لنا لا نخونه، وقد سخّر لنا نفسه، فاتفقوا على أن لا يصل إِليك من أخبار الناس إِلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إِلا أقصوه ونفوه، حتى تسقط منزلته ويصغر قدره،