للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المؤرخون في بخت نصر، هل كان ملكاً مستقلاً بنفسه أم كان نائباً للفرس؟ والأصح عند الأكثر أنه كان نائباً للهراسف المذكور، وسار بالجيوش نيابة عنه، وفتح له البلاد، ثم غزا بخت نصر العرب، وكان في زمن معد بن عدنان، فقصده طوائف من العرب مسالمين، فأحسن إِليهم بخت نصر وأنزلهم شاطئ الفرات وبنوا موضع معسكرهم، وسموه الأنبار، واستمروا كذلك مدة حياة بخت نصر.

ومما جرى لبخت نصر رؤياه التي أريها رقد أثبتها اليهود في كتبهم، وكذلك المؤرخون من المسلمين. قالوا: رأى صنماً رأسه من ذهب، وصدره وذراعاه من فضة، وبطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه وقدماه من حديد، وأصابع قدميه بعضها حديد وبعضها خزف، وأن حجراً انقطعت من جبل، من غير يد، قاطعة له، وصكت الصنم، فاندق الحديد والنحاس وغيره، وصار جميع ذلك مثل الغبار، وألوت به ريح عاصفة، ثم صارت الحجر التي صكت الصنم جبلا عظيماً امتلأت منه الأرض كلها.

فقال بخت نصر: لا أصدق تعبير ما رأيته إِلا ممن يخبرني بما رأيت، وكتم بخت نصر ذلك، وسأل العلماء والسحرة والكهنة عن ذلك، فلم يطق أحد أن ينبئه بذلك، حتى سأل دانيال، فخبره دانيال بصورة رؤياه كما رآها بخت نصر، ولم يخلط منها بشيء.

ثم عبرها له دانيال، فقال: الرأس ملكك، وأنت بين الملوك بمنزلة رأس الصنم الذهب، والذي يقوم بعدك دونك، بمنزلة الفضة من الذهب، ويكون كل متأخر أقل ممن قبله، مثلما النحاس دون الفضة، والحديد دون النحاس، وأما الأصابع التي بعضها حديد وبعضها خزف، فإن المملكة تصير آخر الوقت مختلطة، مختلفة، بعضها قوي وبعضها ضعيف، ثم إِنّ الله تعالى، يقيم بعد ذلك مملكة لا تبيد إلى آخر الدهر. هذا تعبير رؤياك، فخر بخت نصر ساجداً لدانيال، وأمر له بالخلع وأن يقرب له القرابين.

وقد اختلف في مدة ولاية بخت نصر، والذي اختاره أبو عيسى وأثبته أن بخت نصر تولى أو ملك سبعاً وخمسين سنة، وشهراً وثمانية أيام.

وتفسير بخت نصر بالعربية، عطارد، وهو ينطق، سمي بذلك لتقريبه الحكماء والعلماء، وحبه أهل العلم.

ولما هلك ولي مُلك الفرس بعد بخت نصر، ابنه أولاق سنة واحدة وقتل.

ثم ولي بعده - بلطشاصر سنتين، وبلطشاصر هو ابن ابن بخت نصر، ثم إِنه جلس للشراب، واحتفل بلطشاصر في مجلس عمله، وجمع فيه ألف نفس من أصحابه، وجعل فيه من آنية الذهب ما يفوت الحصر، فرأى على ضوء الشمع يد إنسان تكتب على الحائط، فتغير بلطشاصر لذلك، واضطرب ذهنه، واصطكت ركبتاه، فدعا دانيال وقال له: ما رأى، فقال دانيال: إِنك لما عظَمت الذهب، والفضْة والنحاس والحديد، وليس فيها ما ينصرك، ولم تعظم الإِله، الذي بيده نسمتك، وروحك، وجميع تصاريف أمورك، أرسل كفهُ يداً كتبتَ ما معناه: اكشف واعرى، أي أن مملكتك كشفت وعريت وجعلت لأهل فارس، فقُتل بلطاشاصر في تلك الليلة، وبه انقرضت دولة بني بخت نصر.

ولنرجع إِلى سياقة ملك لهراسف، ثم مَلَك بعده ابنه

<<  <  ج: ص:  >  >>