للوجوب في كلام طويل سبق في كتاب المظالم فليراجع، فحكم الحاكم ينفذ ظاهرًا لا باطنًا، فلو قضى بشيء رتب على أصل كاذب بأن كان باطن الأمر فيه بخلاف ظاهره نفذ ظاهرًا لا باطنًا، فلو حكم بشهادة زور بظاهري العدالة لم يحصل بحكمه الحل باطنًا سواء المال والنكاح وغيرهما. أما المرتب على أصل صادق فينفذ القضاء فيه باطنًا أيضًا قطعًا إن كان في محل اتفاق المجتهدين، وعلى الأصح عند البغوي وغيره إن كان في محل اختلافهم وإن كان الحكم لمن لا يعتقده لتتفق الكلمة ويتم الانتفاع، فلو قضى حنفي لشافعي بشفعة الجوار أو بالإرث بالرحم حل له الأخذ به وليس للقاضي منعه من الأخذ بذلك ولا من الدعوى به إذا أرادها اعتبارًا بعقيدة الحاكم ولأن ذلك مجتهد فيه والاجتهاد إلى القاضي لا إلى غيره، ولهذا أجاز للشافعي أن يشهد بذلك عند من يرى جوازه وإن كان خلاف اعتقاده، ولو حكم القاضي بشيء وأقام المحكوم عليه بيّنة تنافي دعوى المحكوم له سمعت وبطل الحكم. وفي الحديث حجة على الحنفية حيث ذهبوا إلى أنه ينفذ ظاهرًا وباطنًا في العقود والفسوخ حتى لو قضى بنكاح امرأة بشاهدي زور حلّ وطؤها.
وأجاب بعض شرّاح المشارق منهم عن الحديث بأن قوله في الرواية الأخرى فأقضي له بنحو ما أسمع منه ظاهرًا يدل على أن ذلك فيما كان بسماع الخصم من غير أن يكون هناك بيّنة أو يمين وليس الكلام فيه، وإنما الكلام في القضاء بشهادة الزور بأن قوله ﷺ:"فمن قضيت له بحق مسلم" الخ. شرطية وهي لا تقتضي صدق المقدّم فيكون من باب فرض المحال نظرًا إلى عدم جواز إقراره على الخطأ، ويجوز ذلك إذا تعلق به غرض كما في قوله تعالى: ﴿قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين﴾ [الزخرف: ٨١] والغرض فيما نحن فيه التهديد والتقريع على اللسن والإقدام على تلحين الحجج في أخذ أموال الناس، وبأن الاحتجاج به يستلزم أنه ﷺ يقر على الخطأ لأنه لا يكون ما قضى به قطعة من النار إلا إذا استمر الخطأ وإلاّ فمتى فرض أنه يطلع عليه فإنه يجب أن يبطل ذلك الحكم ويرد الحق لمستحقه وظاهر الحديث يخالف ذلك فإما أن يسقط الاحتجاج به ويؤول على ما تقدم وإما أن يستلزم التقرير على الخطأ وهو باطل اهـ.
وأجيب عن الأول: بأنه خلاف الظاهر وكذا الثاني وأما الثالث فإن الخطأ الذي لا يقر عليه هو الحكم الذي صدر عن اجتهاده فيما لم يوح إليه فيه وليس النزاع فيه، وإنما النزاع في الحكم الصادر منه بناء على شهادة زور أو يمين فاجرة فلا يسمى خطأ للاتفاق على وجوب العمل بالشهادة وبالإيمان وإلاّ لكان الكثير من الأحكام يسمى خطأ وليس كذلك.
وفي الحديث:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" فحكم بإسلام من تلفظ بالشهادتين ولو كان في نفس الأمر يعتقد خلاف ذلك وحديث إني لم أومر بالتنقيب على قلوب الناس، وحينئذ فالحجة من الحديث ظاهرة في شمول الخبر الأموال والعقود والفسوخ، ومن ثم قال الشافعي: إنه لا فرق في دعوى حلّ الزوجة لمن أقام بتزويجها شاهدي زور وهو يعلم بكذبهما وبين من ادّعى على حر أنه ملكه وأقام بذلك