لكن لما ورد الدليل على ثبوت الميزان والوزن كالحساب والصراط وجب علينا اعتقاده وإن عجزت عقولنا عن إدراك بعض فنَكِل علمه إلى الله تعالى ولا نشتغل بكيفيته والعمدة في إثباتها عند أهل الحق أنها ممكنة في نفسها إذ لا يلزم من فرض وقوعها مُحال لذاته مع إخبار الصادق عنها فأجمع المسلمون عليها قبل ظهور المخالف عليها والله تعالى قادر على أن يعرف عباده مقادير أعمالهم وأقوالهم يوم القيامة بأي طريق شاء إما بأن يجعل الأعمال والأقوال أجسامًا أو يجعلها في أجسام، وقد روى بعض المتكلمين عن ابن عباس ﵄ أن الله تعالى يقلب الأعراض أجسامًا فيزنها أو توزن صحفها.
ويؤيد هذا حديث البطاقة المروي في الترمذي، وقال حسن غريب وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ أن رسول الله ﷺ قال:"إن الله يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاًّ كل سجل مثل مدّ البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كَتَبَتي الحافظون؟ فيقول لا يا رب فيقول: أفلك عذر؟ فقال: لا يا رب فيقول الله تعالى: بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله فيقول: أحضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلاّت؟ فيقول: فإنك لا تظلم فتوضع في السجلاّت في كفّة والبطاقة في كفّة فطاشت السجلاّت وثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء". وقال ابن ماجة بدل لقوله إن الله يستخلص رجلاً من أمتي يصاح برجل من أمتي، وقال محمد بن يحيى: البطاقة الرقعة وهذا يدل على الميزان الحقيقي؛ وأن الموزون صحف الأعمال ويكون رجحانها باعتبار كثرة ما كتب فيها وخفتها بقلّته فلا إشكال، وقيل إنه ميزان كميزان الشعر وفائدته إظهار العدل والمبالغة في الإنصاف ولو جاز حمله على ذلك لجاز حمل الصراط على الدين الحق والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد من الأحزان والأفراح وهذا كله فاسد لأنه ورد لما جاء به الصادق على ما لا يخفى.
فإن قلت: أهل القيامة إما أن يكونوا عالمين بكونه تعالى عادلاً غير ظالم أو لا. فإن علموا ذلك كان مجرد حكمه كافيًا فلا فائدة في وضع الميزان وإن لم يعلموا ذلك لم تحصل الفائدة في وزن الصحائف وحينئذ فلا فائدة في وضعها أصلاً. أجيب: بأنهم عالمون بعدله تعالى وإنما فعل ذلك لإقامة الحجة عليهم وبيانًا لكونه لا يظلم مثقال ذرة وإظهارًا لعظمة قدرته في أن كل كفّة طباق السماوات والأرض ترجح بمثقال الحبة من الخردل وتخف وأيضًا فإنه ﷾ لا يسأل عما يفعل. وقد روي عن سلمان أنه قال: فإن أنكر ذلك منكر جاهل بمعنى توجيه معنى خبر الله تعالى وخبر رسوله ﷺ عن الميزان وقال أو بالله حاجة إلى وزن الأشياء وهو العالم بمقدر كل شيء قبل خلقه إياه وبعده في كل حال. قيل له: وزان ذلك إثباته إياه في أم الكتاب واستنساخه في الكتب من غير حاجة إلى ذلك لأنه سبحانه لا يخاف النسيان وهو عالم بكل ذلك على كل حال ووقت قبل كونه وبعد وجوده وإنما يفعل ذلك تعالى ليكون حجة على خلقه كما قال تعالى: ﴿كل