الثانية حتى بلغ مني الجهد) بالفتح والنصب وبالضم والرفع كسابقه. (ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة) وهذا الغط ليفرّغه عن النظر إلى أمور الدنيا ويقبل بكنيته إلى ما يلقى إليه. وكرره للمبالغة واستدل به على أن المؤدب لا يضرب صبيًّا أكثر من ثلاث ضربات. وقيل: الغطة الأولى ليتخلى عن الدنيا، والثانية ليتفرغ لما يوحى إليه، والثالثة للمؤانسة، ولا يذكر الجهد هنا، نعم هو ثابت عنده في التفسير -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- وعدّ بعضهم هذا من خصائصه ﵊، إذ لم يناقل عن أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه جرى له عند ابتداء الوحي إليه مثله. (ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق). قال الطيبي: هذا أمر بإيجاد القراءة مطلقًا، وهو لا يختص بمقروء دون مقروء، فقوله: باسم ربك حال. أي اقرأ مفتتحًا باسم ربك، أي قل بسم الله الرحمن الرحيم. وهذا يدل على أن البسملة مأمور بها في ابتداء كل قراءة. وقوله: ربك الذي خلق، وصف مناسب مُشعِر بعلية الحكم بالقراءة. والإطلاق في قوله خلق أوّلاً على منوال يعطي ويمنع، وجعله توطئة لقوله:(﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾) الزائد في الكرم على كل كريم، وفيه دليل للجمهور أنه أوّل ما نزل.
وروى الحافظ أبو عمرو الداني من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أوّل شيء نزل من القرآن خمس آيات إلى ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾. وفي المرشد أوّل ما نزل من القرآن هذه السورة في نمط، فلما بلغ جبريل هذا الموضع ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ طوى النمط، ومن ثم قال القرّاء: إنه وقف تام. وقال: من علق، فجمع ولم يقل من علقة، لأن الإنسان في معنى الجمع. وخص الإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لشرفه.
(فرجع بها) أي بالآيات (رسول الله ﷺ) إلى أهله حال كونه (يرجف) بضم الجيم يخفق ويضطرب، (فؤاده) قلبه أو باطنه أو غشاؤه لما فجأه من الأمر المخالف للعادة والمأَلوف، فنفر طبعه البشري وهاله ذلك ولم يتمكن من التأمل في تلك الحالة لأن النبوّة لا تزيك طباع البشرية كلها (فدخل)﵊(على خديجة بنت خويلد) أم المؤمنين (﵂) التي ألف تأنيسها له، فأعلمها بما وقع له (فقال)﵊: (زمّلوني زمّلوني) بكسر الميم مع التكرار مرتين، من التزميل وهو التلفيف. وقال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر والعادة جارية بسكون الرعدة بالتلفف، (فزملوه) بفتح الميم (حتى ذهب عنه الروع) بفتح الراء أي الفزع، (فقال)﵊(لخديجة)﵂(وأخبرها الخبر) جملة حالية (لقد) أي والله لقد (خشيت على نفسي) الموت من شدة الرعب، أو المرض، كما جزم به في بهجة النفوس أو أني لا أطيق حمل أعباء الوحي لما لقيته أوّلاً عند لقاء الملك، وليس معناه الشك في أن ما أتى من الله وأكد باللاء وقد تنبيهًا على تمكن الخشية من قلبه المقدس وخوفه على نفسه الشريفة. (فقالت) له ﵊(خديجة)﵂، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي قالت بإسقاط الفاء (كلا) نفي وإبعاد، أي لا تقل ذلك أو لا خوف عليك، (والله ما يخزيك الله أبدًا) بضم المثناة التحتية