وتعقبه الأبي فقال: ما رد به الأول لا يرفع الإجمال لأنه وإن سلم أنه لنفي الحكم فالأحكام متعددة، وليس أحدهما أولى كما تقدم. وإنما الجواب ما قيل من أنه لا يمتنع نفي الذات، أي الحقيقة الشرعية، لأن الصلاة في عرف الشرع اسم للصلاة الصحيحة، فإذا فقد شرط صحتها انتفت، فلا بد من تعلق النفي بالمسمى الشرعي، ثم لو سلم عوده إلى الحكم فلا يلزم الإجمال لأنه في نفي الصحة أظهر، لأن مثل هذا اللفظ يستعمل عرفًا لنفي الفائدة، كقولهم: لا علم إلاّ ما نفع، ونفي الصحة أظهر في بيان نفي الفائدة. وأيضًا اللفظ يشعر بالنفي العامّ، ونفي الصحة أقرب إلى العموم من نفي الكمال، لأن الفاسد لا اعتبار له بوجه. ومن قال إنه عامّ مخصوص، فالمخصص عنده الحس، لأن الصلاة قد وقعت كقوله تعالى: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الأحقاف: ٢٥]. فإن الحس يشهد بأنها لم تدمر الجبال انتهى.
وقال في فتح القدير: قوله لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، هو مشترك الدلالة، لأن النفي لا يرد إلا على النسب لا على نفي نفس المفرد، والخبر الذي هو متعلق الجار محذوف، فيمكن تقديره صحيحة، فيوافق رأي الشافعي، أو كاملة فيخالفه. وفيه نظر، لأن متعلق المجرور الواقع خبرًا استقرار عام، فالحاصل: لا صلاة كائنة، وعدم الوجود شرعًا هو عدم الصحة. هذا هو الأصل بخلاف: لا صلاة لجار المسجد إلخ، ولا صلاة للعبد الآبق. فإن قيام الدليل على الصحة أوجب كون المراد كونًا خاصًّا أي كاملة. فعلى هذا يكون من حذف الخبر لا من وقوع الجار والمجرور خبرًا.
ثم إن الشافعية يثبتون ركنية الفاتحة لا على معنى الوجوب. عند الحنفية، فإنهم لا يقولون بوجوبها قطعًا بل ظنًّا، غير أنهم لا يخصّون الفرضية والركنية بالقطعي، فلهم أن يقولوا بموجب الوجه المذكور: وإن جوّزنًا الزيادة بخبر الواحد لكنها ليست بلازمة هنا، فإنا إنما قلنا بركنيتها وافتراضها بالمعنى الذي سميتموه وجوبًا، فلا زيادة.
واختلف المالكية هل تجب الفاتحة في كل ركعة أو الحل؟ والقولان في المدونة. وشهر ابن شاس الرواية الأولى. قال القاضي عبد الوهاب وهو المشهور من المذهب، والذي رجع إليه، هي الرواية الثانية. قال القرافي: وهو ظاهر المذهب قاله بهرام.
وحديث الباب لا دلالة فيه على وجوبها في كل ركعة، بل مفهومه الدلالة على الصحة بقراءتها في ركعة واحدة منها لأن فعلها في ركعة واحدة يقتضي حصول اسم قراءتها في تلك الصلاة، والأصل عدم وجوب الزيادة على المرة الواحدة.
نعم يدل للقائلين بوجوبها في كل ركعة وهم الجمهور قوله ﵊: وافعل ذلك في صلاتك كلها بعد أن أمره بالقراءة، وقوله في حديث أحمد وابن حبان. ثم افعل ذلك في كل ركعة.