وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَقْرَبُهُنَّ، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، يَعْنِي: أَنَّهُ يَحْصُرُ نفسه عن الشهوات، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، هُوَ العنين الذي لا ماء لَهُ فَيَكُونُ الْحَصُورُ بِمَعْنَى الْمَحْصُورِ، يَعْنِي: الْمَمْنُوعَ مِنَ النِّسَاءِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ لَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، وَقَدْ تَزَوَّجَ مَعَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَغَضَّ لِبَصَرِهِ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّ الْحَصُورَ الْمُمْتَنِعُ مِنَ الْوَطْءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَ قَوْمٌ هَذَا الْقَوْلَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الثَّنَاءِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى اسْتِحْقَاقِ الثَّنَاءِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ أَبْعَدُ من إلحاق الآفة بالأنبياء.
[٤٠] قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ} [آل عمران: ٤٠] أَيْ: يَا سَيِّدِي، قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَقِيلَ: قَالَهُ لِلَّهِ عَزَّ وجل: {أَنَّى يَكُونُ} [آل عمران: ٤٠] يعني: أين يكون، {لِي غُلَامٌ} [آل عمران: ٤٠] أي: أين {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} [آل عمران: ٤٠] هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ، أَيْ: وَقَدْ بلغت الكبر وشخت، كما تقول: بَلَغَنِي الْجَهْدُ، أَيْ: أَنَا فِي الْجَهْدِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَقَدْ نَالَنِيَ الْكِبَرُ وَأَدْرَكَنِي وَأَضْعَفَنِي، قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ زَكَرِيَّا يَوْمَ بُشِّرَ بِالْوَلَدِ ابن اثنتين وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ابْنُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ ابْنَ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ بِنْتَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} [آل عمران: ٤٠] أي: عقيم لا تلد، ويقال: رَجُلٌ عَاقِرٌ وَامْرَأَةٌ عَاقِرٌ، وَقَدْ عَقُرَ بِضَمِّ الْقَافِ يَعْقِرُ عُقْرًا وَعُقَارَةً، {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: ٤٠]
[٤١] قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} [آل عمران: ٤١] أَيْ: عَلَامَةً أَعْلَمُ بِهَا وَقْتَ حَمْلِ امْرَأَتِي فَأَزِيدُ فِي الْعِبَادَةِ شُكْرًا لَكَ، {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ} [آل عمران: ٤١] أي: تَكُفَّ عَنِ الْكَلَامِ، {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [آل عمران: ٤١] وَتُقْبِلَ بِكُلِّيَّتِكَ عَلَى عِبَادَتِي لَا أنه يحبس لِسَانَهُ عَنِ الْكَلَامِ، وَلَكِنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الْكَلَامِ، وَهُوَ صَحِيحٌ سَوِيٌّ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: ١٠] يدل على قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: ٤١] فَأَمَرَهُ بِالذِّكْرِ وَنَهَاهُ عَنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: عَقَلَ لِسَانَهُ عَنِ الْكَلَامِ مَعَ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمْسَكَ لسانه عن الكلام عقوبة لِسُؤَالِهِ الْآيَةَ، بَعْدَ مُشَافَهَةِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَقَوْلُهُ: {إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: ٤١] أَيْ: إِشَارَةً وَالْإِشَارَةُ قَدْ تَكُونُ باللسان وبالعين واليد، وكانت إشارته بالأصبع المسبحة، قال الْفَرَّاءُ: قَدْ يَكُونُ الرَّمْزُ بِاللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ، وَهُوَ الصوت الخفي شبه الْهَمْسَ، وَقَالَ عَطَاءٌ: أَرَادَ بِهِ صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا صَامُوا لَمْ يَتَكَلَّمُوا إِلَّا رَمْزًا، {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: ٤١] قِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ: الصَّلَاةُ وَالْعَشِيُّ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى غروب الشمس، ومنه سميت صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ، وَالْإِبْكَارُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِلَى الضُّحَى.
[٤٢] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ} [آل عمران: ٤٢] يَعْنِي: جِبْرِيلَ، {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} [آل عمران: ٤٢] اختارك {وَطَهَّرَكِ} [آل عمران: ٤٢] قِيلَ: مِنْ مَسِيسِ الرِّجَالِ، وَقِيلَ: مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتْ مَرْيَمُ لَا تَحِيضُ، وَقِيلَ: مِنَ الذُّنُوبِ، {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: ٤٢] قِيلَ: عَلَى عَالَمِي زَمَانِهَا، وَقِيلَ: عَلَى جَمِيعِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فِي أَنَّهَا وَلَدَتْ بِلَا أَبٍ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ وَقِيلَ: بِالتَّحْرِيرِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ تحرر أنثى.
[٤٣] قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} [آل عمران: ٤٣] قَالَتْ لَهَا الْمَلَائِكَةُ شَفَاهًا أَيْ: أَطِيعِي رَبَّكِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَطِيلِي الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ لِرَبِّكِ، وَالْقُنُوتُ: الطَّاعَةُ، وَقِيلَ: الْقُنُوتُ طُولُ الْقِيَامِ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَمَّا قَالَتْ لَهَا الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ قَامَتْ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى وَرِمَتْ قَدَمَاهَا وَسَالَتْ دَمًا وقيحا {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [آل عمران: ٤٣] قِيلَ: إِنَّمَا قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute