مِنْ بَعْدِي، قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: يُرِيدُ هَبْ لِي مُلْكًا لَا تَسْلُبْنِيهِ فِي آخِرِ عمري، وتعطيه غَيْرِي كَمَا اسْتَلَبْتَهُ فِيمَا مَضَى مِنْ عُمُرِي. {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: ٣٥] قِيلَ: سَأَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ آيَةً لِنُبُوَّتِهِ وَدَلَالَةً عَلَى رِسَالَتِهِ، وَمُعْجِزَةً، وَقِيلَ: سَأَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ عَلَمًا عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ حَيْثُ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَرَدَّ إِلَيْهِ مُلْكَهُ، وزاده فِيهِ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ لِسُلَيْمَانَ مُلْكًا وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِ: {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: ٣٥] تَسْخِيرَ الرِّيَاحِ وَالطَّيْرِ وَالشَّيَاطِينِ، بِدَلِيلِ ما بعده.
[٣٦] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} [ص: ٣٦] لَيِّنَةً لَيْسَتْ بِعَاصِفَةٍ، {حَيْثُ أَصَابَ} [ص: ٣٦] حَيْثُ أَرَادَ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَصَابَ الصَّوَابَ فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ تُرِيدُ أَرَادَ الصواب.
[٣٧] {وَالشَّيَاطِينَ} [ص: ٣٧] أي سخرنا له الشياطين، {كُلَّ بَنَّاءٍ} [ص: ٣٧] يَبْنُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ محاريب وتماثيل، {وَغَوَّاصٍ} [ص: ٣٧] يَسْتَخْرِجُونَ لَهُ اللَّآلِئَ مِنَ الْبَحْرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَخْرَجَ اللُّؤْلُؤَ مِنَ الْبَحْرِ.
[٣٨] {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [ص: ٣٨] مَشْدُودِينَ فِي الْقُيُودِ، أَيْ وَسَخَّرْنَا لَهُ آخَرِينَ يَعْنِي مَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ سُخِّرُوا لَهُ حَتَّى قَرَّنَهُمْ فِي الأصفاد.
[٣٩] {هَذَا عَطَاؤُنَا} [ص: ٣٩] أَيْ قُلْنَا لَهُ هَذَا عَطَاؤُنَا، {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} [ص: ٣٩] الْمَنُّ هُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ تشاؤه ومن لا تشاؤه، مَعْنَاهُ: أَعْطِ مَنْ شِئْتَ وَأَمْسِكْ عمن شئت، {بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: ٣٩] لَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ نِعْمَةً إِلَّا عَلَيْهِ تَبِعَةٌ، إِلَّا سُلَيْمَانَ فإن أَعْطَى أُجر، وَإِنْ لَمْ يُعْطِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هَذَا فِي أَمْرِ الشَّيَاطِينِ، يَعْنِي: خَلِّ مَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَأَمْسِكْ مَنْ شِئْتَ فِي وِثَاقِكَ لَا تَبِعَةَ عَلَيْكَ فِيمَا تَتَعَاطَاهُ.
[٤٠] {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: ٤٠]
[٤١] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ} [ص: ٤١] بِمَشَقَّةٍ وَضُرٍّ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ (بنُصُب) بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِفَتْحِهِمَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ، وَمَعْنَى الْكُلِّ وَاحِدٌ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: بِنُصْبٍ في الجسد، {وَعَذَابٍ} [ص: ٤١] فِي الْمَالِ وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّةَ أيوب فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ [آية ٨٣] .
[٤٢] فَلَمَّا انْقَضَتْ مُدَّةُ بَلَائِهِ قِيلَ له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: ٤٢] اضْرِبْ بِرِجْلِكَ الْأَرْضَ فَفَعَلَ فَنَبَعَتْ عين ماء، {هَذَا مُغْتَسَلٌ} [ص: ٤٢] فأمره الله يَغْتَسِلَ مِنْهَا فَفَعَلَ فَذَهَبَ كُلُّ دَاءٍ كَانَ بِظَاهِرِهِ، ثُمَّ مَشَى أَرْبَعِينَ خُطْوَةً فَرَكَضَ الْأَرْضَ بِرِجْلِهِ الْأُخْرَى فَنَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرَى مَاءٌ عذب بارد، فَشَرِبَ مِنْهَا فَذَهَبَ كُلُّ دَاءٍ كَانَ بِبَاطِنِهِ، فَقَوْلُهُ: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ} [ص: ٤٢] يعني الذي اغتسل منه بارد، {وَشَرَابٌ} [ص: ٤٢] أراد الذي شرب منه.
[قوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً] مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ. . .
[٤٣، ٤٤] {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ - وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: ٤٣ - ٤٤] وَهُوَ مِلْءُ الْكَفِّ مِنَ الشَّجَرِ أَوِ الْحَشِيشِ، {فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: ٤٤] فِي يَمِينِكَ وَكَانَ قَدْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ سَوْطٍ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا يَشْتَمِلُ عَلَى مِائَةِ عُودٍ صِغَارٍ ويضربها ضَرْبَةً وَاحِدَةً، {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: ٤٤]
[٤٥] {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا} [ص: ٤٥] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (عَبْدَنَا) عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (عِبَادَنَا) بِالْجَمْعِ، {إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي} [ص: ٤٥] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُولِي الْقُوَّةِ في طاعة الله، {وَالْأَبْصَارِ} [ص: ٤٥] فِي الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ أَيِ الْبَصَائِرُ فِي الدِّينِ، قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: أُعْطَوْا قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ وَبَصَرًا في الدين.
[٤٦] {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ} [ص: ٤٦] اصطفيناهم، {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: ٤٦] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ (بِخَالِصَةِ) مُضَافًا وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّنْوِينِ، فَمَنْ أَضَافَ فَمَعْنَاهُ: أَخْلَصْنَاهُمْ بِذِكْرِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَأَنْ يَعْمَلُوا لَهَا، وَالذِّكْرَى بِمَعْنَى الذِّكْرِ، قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: نَزَعْنَا