التَّعَبِ وَالشَّقَاءِ مُسَخَّرِينَ لِسُلَيْمَانَ وَهُوَ ميت يظنونه حيا، أراد بِذَلِكَ أَنْ يُعْلِمَ الْجِنَّ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، لِغَلَبَةِ الجهل عليهم، وذكر الأزهري أن معناه تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ، أَيْ ظَهَرَتْ وَانْكَشَفَتِ الْجِنُّ لِلْإِنْسِ، أَيْ ظَهَرَ أَمْرُهُمْ أنهم لا يعلمون لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ شَبَّهُوا عَلَى الْإِنْسِ ذَلِكَ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: تَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ، أَيْ عَلِمَتِ الْإِنْسُ وَأَيْقَنَتْ ذَلِكَ، وقرأ يعقوب: {تَبَيَّنَتِ} [سبأ: ١٤] بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ أَيْ أعلمت الإنس والجن، ذُكِرَ بِلَفْظِ مَا لَمْ يُسَمَّ فاعله، وَتَبَيَّنَ لازم ومتعد.
[قوله تعالى لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ] عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ. . .
[١٥] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} [سبأ: ١٥] رَوَى أَبُو سَبْرَةَ النَّخَعِيُّ عَنْ فروة بن مسيك القطيعي، قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ سَبَأٍ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَرْضًا؟ قَالَ: كَانَ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ وله عشرة من الولد» {فِي مَسْكَنِهِمْ} [سبأ: ١٥] قرأ حمزة وحفص {مَسْكَنِهِمْ} [سبأ: ١٥] بِفَتْحِ الْكَافِ عَلَى الْوَاحِدِ وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْكَافِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ مَسَاكِنِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمْ بمأرب من اليمن، {آيَةٌ} [سبأ: ١٥] دَلَالَةٌ عَلَى وَحْدَانِيَّتِنَا وَقُدْرَتِنَا، ثُمَّ فسر الآية فقال: {جَنَّتَانِ} [سبأ: ١٥] أَيْ هِيَ جَنَّتَانِ بُسْتَانَانِ، {عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} [سبأ: ١٥] أَيْ عَنْ يَمِينِ الْوَادِي وَشِمَالِهِ. وقيل: عن يمين من أتاهما وشماله، وكان لهما واد قد أَحَاطَتِ الْجَنَّتَانِ بِذَلِكَ الْوَادِي {كُلُوا} [سبأ: ١٥] أَيْ وَقِيلَ لَهُمْ: كُلُوا، {مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} [سبأ: ١٥] يعني من ثمار الجنتين {وَاشْكُرُوا لَهُ} [سبأ: ١٥] أَيْ عَلَى مَا رَزَقَكُمْ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْمَعْنَى اعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ، {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} [سبأ: ١٥] أَيْ أَرْضُ سَبَأٍ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ليست بسبخة أَيْ طَيِّبَةُ الْهَوَاءِ، {وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: ١٥] قَالَ مُقَاتِلٌ: وَرَبُّكُمْ إِنْ شَكَرْتُمُوهُ فِيمَا رَزَقَكُمْ رَبٌّ غَفُورٌ لِلذُّنُوبِ.
[١٦] {فَأَعْرَضُوا} [سبأ: ١٦] قال وهب: أرسل اللَّهُ إِلَى سَبَأٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا فَدَعَوْهُمْ إِلَى اللَّهِ وَذَكَّرُوهُمْ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ وَأَنْذَرُوهُمْ عِقَابَهُ فَكَذَّبُوهُمْ، وَقَالُوا: مَا نَعْرِفُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا نِعْمَةً فَقُولُوا لِرَبِّكُمْ فَلْيَحْبِسْ هَذِهِ النِّعَمَ عَنَّا إِنِ اسْتَطَاعَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: ١٦] وَالْعَرِم جَمْعُ عُرْمَةٍ وَهِيَ السِّكر الَّذِي يُحْبَسُ بِهِ الْمَاءُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَرِمُ السَّيْلُ الَّذِي لَا يطاق وَقِيلَ: الْعَرِمُ الْوَادِي وَأَصْلُهُ مِنَ العرامة وهي الشدة والقوة {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} [سبأ: ١٦] وقرأ الْعَامَّةُ بِالتَّنْوِينِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: (أُكُلِ خَمْطٍ) بِالْإِضَافَةِ، الْأُكُلُ الثَّمَرُ، وَالْخَمْطُ الْأَرَاكُ وَثَمَرُهُ يُقَالُ لَهُ الْبَرِيرُ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: كُلُّ نَبْتٍ قَدْ أَخَذَ طَعْمًا مِنَ الْمَرَارَةِ حتى لا يمكن أكله هو خَمْطٌ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْخَمْطُ ثَمَرُ شَجَرَةٍ يُقَالُ لَهُ فَسْوَةُ الضَّبْعِ، عَلَى صُورَةِ الْخَشْخَاشِ يَتَفَرَّكُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَمَنْ جَعَلَ الْخَمْطَ اسْمًا لِلْمَأْكُولِ فَالتَّنْوِينُ فِي أُكُلٍ حَسَنٌ، وَمَنْ جَعَلَهُ أَصْلًا وَجَعَلَ الْأُكُلَ ثَمَرَةً فَالْإِضَافَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ، وَالتَّنْوِينُ سَائِغٌ تَقُولُ الْعَرَبُ: فِي بُسْتَانِ فَلَانٍ أَعْنَابُ كَرْمٍ، يترجم عن الْأَعْنَابَ بِالْكَرْمِ لِأَنَّهَا مِنْهُ، {وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: ١٦] فَالْأَثْلُ هُوَ الطَّرْفَاءُ، وَقِيلَ: هُوَ شَجَرٌ يُشْبِهُ الطَّرْفَاءَ إِلَّا أَنَّهُ أعظم منه، والسدر شَجَرُ النَّبْقِ يُنْتَفَعُ بِوَرَقِهِ لِغَسْلِ اليد وَيُغْرَسُ فِي الْبَسَاتِينِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ سِدْرًا بَرِّيًّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يَصْلُحُ وَرَقُهُ لِشَيْءٍ، قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ شَجَرُ الْقَوْمِ مِنْ خَيْرِ الشَّجَرِ فَصَيَّرَهُ اللَّهُ مِنْ شَرِّ الشَّجَرِ بِأَعْمَالِهِمْ.
[١٧] {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} [سبأ: ١٧] أَيْ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلْنَا بِهِمْ جَزَيْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ، {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: ١٧] أَيْ وَهَلْ يُجَازَى مِثْلَ هَذَا الْجَزَاءِ إِلَّا الْكَفُورُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُجَازَى أَيْ يُعَاقَبُ. وَيُقَالُ فِي الْعُقُوبَةِ: يُجَازَى، وَفِي الْمَثُوبَةِ يُجْزَى. قَالَ مُقَاتِلٌ: هَلْ يُكَافَأُ بِعَمَلِهِ السيئ إِلَّا الْكَفُورُ لِلَّهِ فِي نِعَمِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُؤْمِنُ يُجْزَى وَلَا يُجَازَى أَيْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute